الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما )

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أنه تعالى لما وصف طريقة الكفار والجهال من اليهود وصف طريقة المؤمنين منهم فقال : ( لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما ) .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 84 ]

                                                                                                                                                                                                                                            وفي الآية مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : اعلم أن المراد من ذلك عبد الله بن سلام وأصحابه الراسخون في العلم الثابتون فيه ، وهم في الحقيقة المستدلون بأن المقلد يكون بحيث إذا شكك يشك ، وأما المستدل فإنه لا يتشكك البتة ، فالراسخون هم المستدلون والمؤمنون ، يعني المؤمنين منهم أو المؤمنين من المهاجرين والأنصار وارتفع الراسخون على الابتداء و ( يؤمنون ) خبره ، وأما قوله : ( والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة ) ففيه أقوال :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : روي عن عثمان وعائشة أنهما قالا : إن في المصحف لحنا وستقيمه العرب بألسنتها .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن هذا بعيد لأن هذا المصحف منقول بالنقل المتواتر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكيف يمكن ثبوت اللحن فيه .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : وهو قول البصريين : إنه نصب على المدح لبيان فضل الصلاة ، قالوا : إذا قلت : مررت بزيد الكريم ، فلك أن تجر الكريم لكونه صفة لزيد ، ولك أن تنصبه على تقدير أعني ، وإن شئت رفعت على تقدير هو الكريم ، وعلى هذا يقال : جاءني قومك المطعمين في المحل والمغيثون في الشدائد ، والتقدير جاءني قومك أعني المطعمين في المحل وهم المغيثون في الشدائد فكذا ههنا تقدير الآية : أعني المقيمين الصلاة وهم المؤتون الزكاة ، طعن الكسائي في هذا القول وقال : النصب على المدح إنما يكون بعد تمام الكلام ، وههنا لم يتم الكلام ، لأن قوله : ( لكن الراسخون في العلم ) منتظر للخبر ، والخبر هو قوله : ( أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما ) .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب : لا نسلم أن الكلام لا يتم إلا عند قوله : ( أولئك ) لأنا بينا أن الخبر هو قوله : ( يؤمنون ) وأيضا لم لا يجوز الاعتراض بالمدح بين الاسم والخبر ؛ وما الدليل على امتناعه ؟ فهذا القول هو المعتمد في هذه الآية .

                                                                                                                                                                                                                                            والقول الثالث : وهو اختيار الكسائي ، وهو أن المقيمين خفض بالعطف على ( ما ) في قوله : ( بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ) والمعنى : والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالمقيمين الصلاة ، ثم عطف على قوله : ( والمؤمنون ) قوله : ( والمؤتون الزكاة ) والمراد بالمقيمين الصلاة الأنبياء ، وذلك لأنه لم يخل شرع أحد منهم من الصلاة . قال تعالى في سورة الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - بعد أن ذكر أعدادا منهم ( وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة ) [الأنبياء : 73] وقيل : المراد بالمقيمين الصلاة الملائكة الذين وصفهم الله بأنهم الصافون وهم المسبحون وأنهم يسبحون الليل والنهار لا يفترون ، فقوله : ( يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ) يعني : يؤمنون بالكتب ، وقوله : ( والمقيمين الصلاة ) يؤمنون بالرسل .

                                                                                                                                                                                                                                            الرابع : جاء في مصحف عبد الله بن مسعود " والمقيمون الصلاة " بالواو ، وهي قراءة مالك بن دينار والجحدري وعيسى الثقفي .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : اعلم أن العلماء على ثلاثة أقسام :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : العلماء بأحكام الله تعالى فقط .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : العلماء بذات الله وصفات الله فقط .

                                                                                                                                                                                                                                            والثالث : العلماء بأحكام الله وبذات الله ، أما الفريق الأول فهم العالمون بأحكام الله وتكاليفه وشرائعه .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما الثاني : فهم العالمون بذات الله وبصفاته الواجبة والجائزة والممتنعة .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما الثالث : فهم الموصوفون بالعاملين وهم أكابر العلماء ، وإلى هذه الأقسام الثلاثة أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله : " جالس العلماء وخالط الحكماء ورافق الكبراء " . وإذا عرفت هذا فنقول : إنه تعالى وصفهم [ ص: 85 ] بكونهم راسخين في العلم ، ثم شرح ذلك فبين أولا : كونهم عالمين بأحكام الله تعالى ، وعاملين بتلك الأحكام ، فأما علمهم بأحكام الله فهو المراد من قوله : ( والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ) وأما عملهم بتلك الأحكام فهو المراد بقوله : ( والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة ) وخصهما بالذكر لكونهما أشرف الطاعات لأن الصلاة أشرف الطاعات البدنية ، والزكاة أشرف الطاعات المالية ، ولما شرح كونهم عالمين بأحكام الله وعاملين بها شرح بعد ذلك كونهم عالمين بالله ، وأشرف المعارف العلم بالمبدأ والمعاد ، فالعلم بالمبدأ هو المراد بقوله : ( والمؤمنون بالله ) والعلم بالمعاد هو المراد من قوله : ( واليوم الآخر ) ولما شرح هذه الأقسام ظهر كون هؤلاء المذكورين عالمين بأحكام الله تعالى وعاملين بها ، وظهر كونهم عالمين بالله وبأحوال المعاد ، وإذا حصلت هذه العلوم والمعارف ظهر كونهم راسخين في العلم لأن الإنسان لا يمكنه أن يتجاوز هذا المقام في الكمال وعلو الدرجة ، ثم أخبر عنهم بقوله : ( أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما ) .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية