الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            باب المكاتب 2607 - ( عن عائشة : { أن بريرة جاءت تستعينها في كتابتها ولم تكن قضت من كتابتها شيئا ، فقالت لها عائشة : ارجعي إلى أهلك ، فإن أحبوا أن أقضي عنك كتابتك ويكون ولاؤك لي فعلت ، فذكرت بريرة ذلك لأهلها فأبوا وقالوا : إن شاءت أن تحتسب عليك فلتفعل ويكون لنا ولاؤك ، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : ابتاعي فأعتقي ، فإنما الولاء لمن أعتق ، ثم قام فقال : ما بال أناس يشترطون شروطا ليست في كتاب الله تعالى ، من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فليس له ، وإن شرطه مائة مرة ، شرط الله أحق وأوثق } متفق عليه وفي رواية قالت : { جاءت بريرة فقالت : إني كاتبت أهلي على تسع أواق ، في كل عام أوقية } الحديث متفق عليه )

                                                                                                                                            [ ص: 110 ]

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            [ ص: 110 ] قوله : ( باب المكاتب ) بفتح الفوقانية : من تقع له الكتابة ، وبكسرها : من تقع منه والكتابة بكسر الكاف وفتحها قال الراغب : اشتقاقها من كتب بمعنى أوجب ، ومنه قوله تعالى: { كتب عليكم الصيام } أو بمعنى جمع وضم ، ومنه كتب الخط قال الحافظ : وعلى الأول تكون مأخوذة من معنى الالتزام ، وعلى الثاني تكون مأخوذة من الخط لوجوده عند عقدها غالبا قال الروياني : الكتابة إسلامية ولم تكن تعرف في الجاهلية

                                                                                                                                            وقال ابن التين : كانت الكتابة متعارفة قبل الإسلام فأقرها النبي صلى الله عليه وسلم وقال ابن خزيمة وقد كانوا يكاتبون في الجاهلية بالمدينة قوله : ( أن بريرة ) قد تقدم ضبط هذا الاسم وبيان اشتقاقه في باب من اشترى عبدا بشرط أن يعتقه من كتاب البيع ، وتقدم أيضا طرف من شرح هذا الحديث في باب أن من شرط الولاء أو شرط شرطا فاسدا من كتاب البيع أيضا قوله : ( فإن أحبوا ، . . . إلخ ) ظاهره أن عائشة طلبت أن يكون الولاء لها إذا بذلت جميع مال الكتابة ولم يقع ذلك إذ لو وقع لكان اللوم على عائشة بطلبها ولاء من أعتقه غيرها

                                                                                                                                            وقد رواه أبو أسامة بلفظ يزيل الإشكال فقال : " أن أعدها لهم عدة واحدة وأعتقك ويكون ولاؤك لي فعلت " وكذلك رواه وهيب عن هشام ، فعرف بذلك أنها أرادت أن تشتريها شراء صحيحا ثم تعتقها ، إذ العتق فرع ثبوت الملك ، ويؤيده قول النبي صلى الله عليه وسلم : " ابتاعي فأعتقي " والمراد بالأهل هنا في قول عائشة : " ارجعي إلى أهلك " : السادة ، والأهل في الأصل : الآل ، وفي الشرع : من تلزم نفقته قوله : ( إن شاءت أن تحتسب ) هو من الحسبة بكسر الحاء المهملة : أي تحتسب الأجر عند الله ولا يكون لها ولاء

                                                                                                                                            قوله : ( فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ) في رواية للبخاري : " فسمع بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فسألني " وفي أخرى له : " فسمع بذلك النبي صلى الله عليه وسلم أو بلغه " قوله : ( ابتاعي فأعتقي ) هو كقوله في حديث ابن عمر { لا يمنعك ذلك } قوله : ( على تسع أواق ) في رواية معلقة للبخاري : " خمس أواق نجمت عليها في خمس سنين " ولكن المشهور رواية التسع ، وقد جزم الإسماعيلي بأن رواية الخمس غلط ويمكن الجمع بأن التسع أصل والخمس كانت بقيت عليه وبهذا جزم القرطبي والمحب الطبري ويعكر عليه ما في تلك الرواية بلفظ : " ولم تكن قضت من كتابتها شيئا " وأجيب بأنها كانت حصلت الأربع الأواقي قبل أن تستعين ثم جاءتها وقد بقي عليها خمس

                                                                                                                                            وقال القرطبي : يجاب بأن الخمس هي التي كانت استحقت عليها بحلول نجمها من جملة التسع الأواقي المذكورة ويؤيده ما وقع في رواية للبخاري ذكرها في أبواب المساجد بلفظ : " فقال أهلها : إن شئت أعطيت ما يبقى " وقد قدمنا بقية الكلام على هذا الحديث في ذلك الباب من كتاب البيع فليرجع إليه ، وله فوائد أخر خارجة عن المقصود قال ابن بطال : أكثر [ ص: 111 ] الناس من تخريج الوجوه في حديث بريرة حتى بلغوها نحو مائة وجه وقال النووي : صنف فيه ابن خزيمة وابن جرير تصنيفين كبيرين أكثرا فيهما من استنباط الفوائد .

                                                                                                                                            2608 - ( وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { أيما عبد كوتب بمائة أوقية فأداها إلا عشر أوقيات فهو رقيق } رواه الخمسة إلا النسائي وفي لفظ : { المكاتب عبد ما بقي عليه من مكاتبته درهم } رواه أبو داود ) .

                                                                                                                                            2609 - ( وعن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إذا كان لإحداكن مكاتب وكان عنده ما يؤدي فلتحتجب منه } رواه الخمسة إلا النسائي وصححه الترمذي ، ويحمل الأمر بالاحتجاب على الندب ) .

                                                                                                                                            2610 - ( وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { يودى المكاتب بحصة ما أدى دية الحر وما بقي دية العبد } رواه الخمسة إلا ابن ماجه ) .

                                                                                                                                            2611 - ( وعن علي عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { يودى المكاتب بقدر ما أدى } رواه أحمد ) .

                                                                                                                                            حديث عمرو بن شعيب باللفظ الأول ، أخرجه أيضا الحاكم وصححه ، وقال الترمذي غريب قال الشافعي : لم أجد أحدا روى هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا عمرا ولم أر من رضيت من أهل العلم يثبته ، وعلى هذا فتيا المفتين وأخرجه باللفظ الثاني أيضا النسائي والحاكم وابن حبان ، وحسن الحافظ إسناده في بلوغ المرام ، وهو من رواية إسماعيل بن عياش وفيه مقال وقال النسائي : هو حديث منكر وهو عندي خطأ ا هـ وفي إسناده أيضا عطاء الخراساني عن عمرو بن شعيب ولم يسمع عنه ، كما قال ابن حزم وحديث أم سلمة قال الشافعي : لم أر أحدا ممن رضيت من أهل العلم يثبت واحدا من هذين الحديثين قال البيهقي : أراد هذا وحديث عمرو بن شعيب ، يعني الذي قبله ا هـ وهو من رواية الزهري عن نبهان مولى أم سلمة عنها وقد صرح معمر بسماع الزهري من نبهان وقد أخرجه ابن خزيمة عن نبهان من طريق أخرى وحديث ابن عباس سكت [ ص: 112 ] عنه أبو داود والمنذري ، وهو عند النسائي مسند ومرسل ، ورجال إسناده عند أبي داود ثقات وحديث علي عليه السلام أخرجه أيضا أبو داود لأنه قال في السنن بعد إخراجه لحديث ابن عباس ما لفظه : ورواه ، يعني حديث ابن عباس ، وهيب عن أيوب عن عكرمة عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وجعله إسماعيل ابن علية من قول عكرمة ، وأخرجه البيهقي من طرق

                                                                                                                                            قوله : ( فهو رقيق ) أي تجري عليه أحكام الرق ، وفيه دليل على جواز بيع المكاتب لأنه رق مملوك ، وكل مملوك يجوز بيعه وهبته والوصية به ، وهو القديم من مذهب الشافعي ، وبه قال أحمد وابن المنذر قال : بيعت بريرة بعلم النبي صلى الله عليه وسلم وهي مكاتبة ولم ينكر ذلك ففيه أبين بيان أن بيعه جائز قال : ولا أعلم خبرا يعارضه ، قال : ولا أعلم دليلا على عجزها وقال الشافعي في الجديد ومالك وأصحاب الرأي : إنه لا يجوز بيعه ، وبه قالت العترة ، قالوا : لأنه قد خرج من ملكه بدليل تحريم الوطء والاستخدام ، وتأول الشافعي حديث بريرة على أنها كانت قد عجزت وكان بيعها فسخا لكتابتها ، وهذا التأويل يحتاج إلى دليل

                                                                                                                                            قوله : ( فلتحتجب منه ) ظاهر الأمر الوجوب إذا كان مع المكاتب من المال ما يفي بما عليه من مال الكتابة لأنه قد صار حرا وإن لم يكن قد سلمه إلى مولاته وقيل : إنه محمول على الندب قال الشافعي : يجوز أن يكون أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سلمة بالاحتجاب من مكاتبها إذا كان عنده ما يؤدي لتعظيم أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فيكون ذلك مختصا بهن ، ثم قال : ومع هذا فاحتجاب المرأة ممن يجوز له أن يراها واسع ، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم سودة أن تحتجب من رجل قضى أنه أخوها ، وذلك يشبه أن يكون للاحتياط وأن الاحتجاب ممن له أن يراها مباح ا هـ

                                                                                                                                            والقرينة القاضية بحمل هذا الأمر على الندب حديث عمرو بن شعيب المذكور فإنه يقتضي أن حكم المكاتب قبل تسليم جميع مال الكتابة حكم العبد ، والعبد يجوز له النظر إلى سيدته كما هو مذهب أكثر السلف لقوله تعالى: { أو ما ملكت أيمانهن } وذهب جماعة من أهل العلم منهم الهادوية إلى أنه لا يجوز للعبد النظر إلى سيدته ومن متمسكاتهم لذلك ما روي عن سعيد بن المسيب أنه قال : لا تغرنكم آية النور ، فالمراد بها الإماء قال في البحر : وخصهن بالذكر لتوهم مخالفتهن للحرائر في قوله تعالى: { أو نسائهن } ا هـ وقد تمسك بحديث عمرو بن شعيب جمهور أهل العلم من الصحابة وغيرهم فقالوا : حكم المكاتب قبل تسليم جميع مال الكتابة حكم العبد في جميع الأحكام من الإرث والأرش والدية والحد وغير ذلك

                                                                                                                                            وتمسك من قال بأنه يعتق من المكاتب بقدر ما أدى من مال الكتابة ، وتتبعض الأحكام التي يمكن تبعضها في حقه بحديث ابن عباس وحديث علي المذكورين وقد قدمنا في باب ميراث المعتق بعضه من كتاب الفرائض أقوالا في المكاتب الذي قد أدى بعض [ ص: 113 ] مال كتابته قوله : ( يودى المكاتب ) بضم أوله وفتح الدال المهملة مبنيا للمجهول : أي يؤدي الجاني عليه من ديته أو أرشه لما كان منه حرا بحساب دية الحر وأرشه ولما كان منه عبدا بحساب دية العبد وأرشه

                                                                                                                                            2612 - ( وعن موسى بن أنس : أن سيرين سأل أنس بن مالك المكاتبة ، وكان كثير المال فأبى ، فانطلق إلى عمر فقال : كاتبه ، فأبى ، فضربه عمر بالدرة وتلا عمر { فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا } أخرجه البخاري ) .

                                                                                                                                            2613 - ( وعن أبي سعيد المقبري قال : اشترتني امرأة من بني ليث بسوق ذي المجاز بسبعمائة درهم ، ثم قدمت فكاتبتني على أربعين ألف درهم ، فأذهبت إليها عامة المال ثم حملت ما بقي إليها ، فقلت : هذا مالك فاقبضيه ، فقالت : لا والله حتى آخذه منك شهرا بشهر وسنة بسنة ، فخرجت به إلى عمر بن الخطاب ، فذكرت ذلك له ، فقال عمر : ارفعه إلى بيت المال ، ثم بعث إليها : هذا مالك في بيت المال وقد عتق أبو سعيد ، فإن شئت فخذي شهرا بشهر ، وسنة بسنة ، قال : فأرسلت فأخذته رواه الدارقطني ) .

                                                                                                                                            حديث أبي سعيد المقبري هو من رواية ابنه سعيد بن أبي سعيد ، وأخرجه أيضا البيهقي وأورده صاحب التلخيص وسكت عنه . قوله : ( أن سيرين ) هو والد محمد بن سيرين الفقيه المشهور ، وكنيته أبو عمرو ، وكان من سبي عين التمر ، اشتراه أنس في خلافة أبي بكر وروى عن عمر وغيره ، وذكره ابن حبان في ثقات التابعين وموسى بن أنس الراوي عنه لم يدرك وقت سؤال سيرين الكتابة من أنس وقد رواه عبد الرزاق والطبراني من وجه آخر متصل من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس قال : أرادني سيرين على المكاتبة فأبيت ، فأتى عمر بن الخطاب فذكر نحوه

                                                                                                                                            وقد استدل بالآية المذكورة من قال بوجوب الكتابة ، وقد نقله ابن حزم عن مسروق والضحاك وزاد القرطبي معهما وهو قول للشافعي وبه قالت الظاهرية واختاره ابن جرير وحكاه في البحر عن عطاء وعمرو بن دينار وقال إسحاق بن راهويه : إنها واجبة إذا طلبها العبد وذهبت العترة والشافعية والحنفية وجمهور العلماء إلى عدم الوجوب وأجابوا عن الآية بأجوبة منها ما قاله أبو سعيد الإصطخري : إن القرينة الصارفة للأمر المذكورة آخر الآية ، أعني [ ص: 114 ] قوله تعالى: { إن علمتم فيهم خيرا } فإنه وكل الاجتهاد في ذلك إلى المولى ، ومقتضاه أنه إذا رأى عدمه لم يجبر عليه فدل على أنه غير واجب وقال غيره : الكتابة عقد غرر ، فكان الأصل أن لا تجوز ، فلما وقع الإذن فيها كان أمرا بعد منع والأمر بعد المنع للإباحة ، ولا يرد على هذا كونها مستحبة ، لأن استحبابها ثبت بأدلة أخرى قال القرطبي : لما ثبت أن رقبة العبد وكسبه ملك لسيده دل على أن الأمر بالكتابة غير واجب ، لأن قوله : " خذ كسبي وأعتقني " يصير بمنزلة أعتقني بلا شيء ، وذلك غير واجب اتفاقا وأجاب عن الآية في البحر بأن القياس على المعاوضات صرفها عن الظاهر كالتخصيص ورد بأن القياس المذكور فاسد الاعتبار لأنه في مقابلة النص ويجاب بأن المراد بالقياس المذكور هو الأصل المعلوم من الأصول المقررة وهو صالح للصرف لا للقياس الذي هو إلحاق أصل بفرع حتى يرد بما ذكر واستدل بفعل عمر المذكور في قصة أبي سعيد المقبري من لم يشترط التنجيم في الكتابة وهم أبو حنيفة ومالك والناصر والمؤيد بالله وذهب الشافعي والهادي وأبو العباس وأبو طالب إلى اشتراط التأجيل والتنجيم واستدلوا على ذلك بأن الكتابة مشتقة من الضم وهو ضم بعض النجوم إلى بعض ، وأقل ما يحصل به الضم نجمان واحتجوا أيضا بما رواه ابن أبي شيبة عن علي بلفظ : " إذا تتابع على المكاتب نجمان فلم يؤد نجومه رد إلى الرق " ولا يخفى أن مثل هذا لا ينتهض للاحتجاج به على الاشتراط ، أما أولا فلأنه قول صحابي ، وأما ثانيا فليس فيه ما يشعر بأن ذلك على جهة الحتم والتأجيل في الأصل إنما جعل لأجل الرفق بالعبد لا بالسيد ، فإذا قدر العبد على التعجيل وتسليم المال دفعة فكيف يمنع من ذلك ؟ والحاصل أن التنجيم جائز بالاتفاق كما حكي ذلك في الفتح وأما كونه شرطا أو واجبا فلا مستند له




                                                                                                                                            الخدمات العلمية