الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 390 ] فصل

                وجاء في " أولياء الله " الذين هم المتقون نوع من هذا : فروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم { يقول الله تعالى : من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ; فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه ; ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه } .

                فأول ما في الحديث قوله : { من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة } فجعل معاداة عبده الولي معاداة له ; فعين عدوه عين عدو عبده وعين معاداة وليه عين معاداته ليسا هما شيئين متميزين ولكن ليس الله هو عين عبده ولا جهة عداوة عبده عين جهة عداوة نفسه وإنما اتفقا في النوع .

                ثم قال : { فإذا أحببته كنت سمعه وبصره ويده ورجله } وفي رواية في غير الصحيح : { فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي } فقوله : [ ص: 391 ] " بي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي " بين معنى قوله : { كنت سمعه وبصره ويده ورجله } لا أنه يكون نفس الحدقة والشحمة والعصب والقدم وإنما يبقى هو المقصود بهذه الأعضاء والقوى وهو بمنزلتها في ذلك فإن العبد بحسب أعضائه وقواه يكون إدراكه وحركته ; فإذا كان إدراكه وحركته بالحق ; ليس بمعنى خلق الإدراك والحركة فإن هذا قدر مشترك فيمن يحبه وفيمن لا يحبه وإنما للمحبوب الحق من الحق من هذه الإعانة بقدر ما له من المعية والربوبية والإلهية ; فإن كل واحدة من هذه الأمور عامة وخاصة .

                وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم { يقول الله تعالى : عبدي مرضت فلم تعدني فيقول : رب كيف أعودك وأنت رب العالمين ؟ فيقول : أما علمت أن عبدي فلانا مرض ؟ فلو عدته لوجدتني عنده . عبدي جعت فلم تطعمني . فيقول : رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين ؟ فيقول : أما علمت أن عبدي فلانا جاع ؟ فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي } ففي هذا الحديث ذكر المعنيين الحقين ونفى المعنيين الباطلين وفسرهما .

                فقوله : " جعت ومرضت " لفظ اتحاد يثبت الحق .

                وقوله : { لوجدتني عنده ووجدت ذلك عندي } نفي للاتحاد العيني بنفي الباطل وإثبات لتمييز الرب عن العبد .

                [ ص: 392 ] وقوله : { لوجدتني عنده } لفظ ظرف ; وبكل يثبت المعنى الحق من الحلول الحق ; الذي هو بالإيمان لا بالذات .

                ويفسر قوله : { مرضت فلم تعدني } فلو كان الرب عين المريض والجائع لكان إذا عاده وإذا أطعمه يكون قد وجده إياه وقد وجده قد أكله .

                وفي قوله في المريض : { وجدتني عنده } وفي الجائع : { لوجدت ذلك عندي } فرقان حسن ; فإن المريض الذي تستحب عيادته ويجد الله عنده : هو المؤمن بربه الموافق لإلهه الذي هو وليه ; وأما الطاعم فقد يكون فيه عموم لكل جائع يستحب إطعامه فإن الله يقول : { من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة } فمن تصدق بصدقة واجبة أو مستحبة : فقد أقرض الله سبحانه بما أعطاه لعبده .

                وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب - ولا يقبل الله إلا الطيب - فإن الله يأخذها بيمينه فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله حتى تكون مثل الجبل العظيم } وقال : { إن الصدقة لتقع بيد الحق قبل أن تقع بيد السائل } .

                لكن الأشبه : أن هذا العبد المذكور في الجوع هو المذكور في المرض وهو العبد الولي الذي فيه نوع اتحاد وإن كان الله يثيب على طعام الفاسق والذمي .

                ونظير القرض : النصر في مثل قوله تعالى { ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز } وقوله : { إن تنصروا الله ينصركم } ونحو ذلك لكن النصر فيه معنى ; لكن لا يقال في مثله جعت .

                فقد ذكر الله في القرآن القرض والنصر وجعله له هذا في الرزق وهذا في النصر وجاء في الحديث العيادة وهذه الثلاثة هي المذكورة في قوله تعالى { والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس } وقوله : { مستهم البأساء والضراء وزلزلوا } وإنما في الحديث أمر البأساء والضراء فقط ; لأن ذلك ينفرد به الواحد المخاطب بقوله : { عبدي مرضت وجعت } فلذلك عاتبه .

                وأما النصر : فيحتاج في العادة إلى عدد ; فلا يعتب فيه على أحد معين غالبا أو المقصود بالحديث التنبيه وفي القرآن النصر والرزق وليس فيه العيادة ; لأن النصر والقرض فيه عموم لا يختص بشخص دون شخص .

                وأما العيادة : فإنما تكون لمن يجد الحق عنده .

                [ ص: 394 ] فصل

                فهذان المعنيان صحيحان ثابتان بل هما حقيقة الدين واليقين والإيمان .

                أما الأول - وهو كون الله في قلبه بالمعرفة والمحبة - : فهذا فرض على كل أحد ولا بد لكل مؤمن منه ; فإن أدى واجبه فهو مقتصد وإن ترك بعض واجبه فهو ظالم لنفسه ; وإن تركه كله فهو كافر بربه .

                وأما الثاني - وهو موافقة ربه فيما يحبه ويكرهه ويرضاه ويسخطه - فهذا على الإطلاق إنما هو للسابقين المقربين : الذين تقربوا إلى الله بالنوافل - التي يحبها ولم يفرضها - بعد الفرائض التي يحبها ويفرضها ويعذب تاركها .

                ولهذا كان هؤلاء لما أتوا بمحبوب الحق من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة المنتظمة للمعارف والأحوال والأحمال : أحبهم الله تعالى . فقال : { ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه } فعلوا محبوبه فأحبهم فإن الجزاء من جنس العمل مناسب له مناسبة المعلول لعلته .

                ولا يتوهم أن المراد بذلك : أن يأتي العبد بعين كل حركة يحبها الله ; فإن هذا ممتنع .

                وإنما المقصود أن يأتي بما يقدر عليه من الأعمال الباطنة والظاهرة ; [ ص: 395 ] والباطنة يمكنه أن يأتي منها بأكثر مما يأتي به من الظاهرة كما قال بعض السلف : " قوة المؤمن في قلبه وضعفه في جسمه وقوة المنافق في جسمه وضعفه في قلبه " ولهذا قال صلى الله عليه وسلم { المرء مع من أحب } { وقال : إن بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم حبسهم العذر } وقال : { فهما في الأجر سواء } في حديث القادر على الإنفاق والعاجز عنه الذي قال : { لو أن لي مثل ما لفلان لعملت فيه مثل ما عمل } فإنهما لما استويا في عمل القلب وكان أحدهما معذور الجسم استويا في الجزاء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم { إذا مرض العبد أو سافر كتب له من العمل مثل ما كان يعمل وهو صحيح مقيم } .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية