الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا .

                                                          تسبح له السماوات السبع أي طبقات النجوم وبروجها، وكل سماء زينت بمصابيح هي نجومها، والتسبيح الخضوع له سبحانه وتعالى، وكونها طائعة له سبحانه فكل الوجود في قبضته، وإن هذا التسبيح يرشح للتفسير الثاني، لقوله تعالى: إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا أي الذي يقول: إن المعنى أن آلهتهم خاضعة لله يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة.

                                                          والتسبيح هو بمعنى الخضوع الكامل لله تعالى، لا يخرج شيء مما في الوجود أو أحد عن طاعته سبحانه، ويصح أن يراد بهذا الخضوع مع ذكر الله تعالى بالتنزيه عن الشريك وأنه الواحد الأحد الفرد الصمد، وإنه يكون خاشعا مسبحا عابدا، وإن كان غير مكلف كما يكلف العقلاء، وإن الحجارة طوع يمينه سبحانه، ولقد قال تعالى: وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله

                                                          وإذا كانت هذه حال الوجود كله من أنه يسبح الله تعالى، وإن كنا لا ندرك تسبيحه فكان ذلك دليل وجوب عبادته وحده لا يعبد سواه، وقد استدرك الله تعالى على حكمه سبحانه بتسبيح الوجود بقوله: ولكن لا تفقهون تسبيحهم أي لا تنفذ بصائركم ومدارككم إلى إدراك تسبيحهم، لأنه لا يعلمه إلا اللطيف الخبير ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير سبحانه وتعالى.

                                                          [ ص: 4391 ] ولقد ذكر الزمخشري أن معنى يسبح بحمده أنها تسبح بلسان الحال، حيث تدل على الصانع وعلى قدرته وحكمته، فكأنها تتعلق بذلك وكأنها تنزه الله عز وجل مما لا يجوز عليه من الشركاء وغيره، ويقول: إن قوله تعالى: ولكن لا تفقهون تسبيحهم خطاب للمشركين من حيث إنهم لم يأخذوا بمقتضى دلالة الحال، وما توجبه من إيمان بالله وحده.

                                                          وفى الحق، إن الزمخشري أخرج النص من ظاهره إلى مجاز صحيح في ذاته، ولكنه بعيد من جهة، ولا ينقل الكلام من الحقيقة إلى المجاز إلا بقرينة توجب الخروج، وإلا بتعذر الحقيقة أو يكون في المجاز جمال لفظي خاص يليق بمقام البيان القرآني، وقد فند الناصر كلام الزمخشري بقوله: " ولقائل أن يقول فما تصنع بقوله تعالى: كان حليما غفورا وهو لا يغفر للمشركين ولا يتجاوز عن جهلهم وإشراكهم، وإنما يخاطب بهاتين الصفتين حليما غفورا المؤمنين. والظاهر أن المخاطب المؤمنون، وأما عدم فقهنا للتسبيح الصادر من الجمادات، فكأنه والله أعلم من عدم العمل بمقتضى ذلك، فإن الإنسان لو تيقظ حق التيقظ إلى النملة والبعوضة وكل ذرة من ذرات الكون لوجدها تسبح الله وتنزهه وتشهد بجلاله وكبريائه وقهره، وعندي أن قوله تعالى: ولكن لا تفقهون تسبيحهم خطاب لكل من هو أهل للخطاب.

                                                          وقوله تعالى: إنه كان حليما غفورا لا يعاجل بالعقوبة ويفتح الغفران لمن يتوب، ولو كان مشركا يتوب عن شركه، كما قال: قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وأكد سبحانه وصفه بهذين الوصفين بـ (إن) المؤكدة، وكان الدالة على الاستمرار وصفة التشبيه الدالة على كمال الاتصاف.

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية