الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
رب السماوات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا .

جملة مستأنفة من كلام الله تعالى كما يقتضيه قوله فاعبده إلى آخره ذيل به الكلام الذي لقنه جبريل المتضمن : أن الملائكة لا يتصرفون إلا عن إذن ربهم وأن أحوالهم كلها في قبضته بما [ ص: 142 ] يفيد عموم تصرفه تعالى في سائر الكائنات ، ثم فرع عليه أمر الرسول - عليه السلام - بعبادته ، فقد انتقل الخطاب إليه .

وارتفع رب السماوات على الخبرية لمبتدأ محذوف ملتزم الحذف في المقام الذي يذكر فيه أحد بأخبار وأوصاف ثم يراد تخصيصه بخبر آخر . وهذا الحذف سماه السكاكي بالحذف الذي اتبع فيه الاستعمال كقول الصولي أو ابن الزبير بفتح الزاي وكسر الموحدة :

سأشكر عمرا إن تراخت منيتي أيادي لم تمنن وإن هي جلت     فتى غير محجوب الغنى عن صديقه
ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلت



والسماوات : العوالم العلوية . والأرض : العالم السفلي ، وما بينهما : الأجواء والآفاق . وتلك الثلاثة تعم سائر الكائنات .

والخطاب في فاعبده ، واصطبر ، وهل تعلم للنبيء - صلى الله عليه وسلم - . وتفريع الأمر بعبادته على ذلك ظاهر المناسبة ويحصل منه التخلص إلى التنويه بالتوحيد وتفظيع الإشراك .

والاصطبار : شدة الصبر على الأمر الشاق ، لأن صيغة الافتعال ترد لإفادة قوة الفعل . وكان الشأن أن يعدى الاصطبار بحرف على كما قال تعالى ( وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها ) لكنه عدي هنا باللام لتضمينه معنى الثبات ، أي اثبت للعبادة ، لأن العبادة مراتب كثيرة من مجاهدة النفس . وقد يغلب بعضها بعض النفوس فتستطيع الصبر على بعض العبادات دون بعض كما قال النبيء - صلى الله عليه وسلم - في صلاة العشاء : هي أثقل صلاة على المنافقين . فلذلك لما أمر الله رسوله بالصبر على العبادة كلها وفيها أصناف [ ص: 143 ] جمة تحتاج إلى ثبات العزيمة ، نزل القائم بالعبادة منزلة المغالب لنفسه ، فعدي الفعل باللام كما يقال : اثبت لعداتك .

وجملة ( هل تعلم له سميا ) واقعة موقع التعليل للأمر بعبادته والاصطبار عليها . والسمي هنا الأحسن أن يكون بمعنى المسامي ، أي المماثل في شئونه كلها . فعن ابن عباس أنه فسره بالنظير ، مأخوذا من المساماة فهو فعيل بمعنى فاعل ، لكنه أخذ من المزيد كقول عمرو بن معدي كرب :

أمن ريحانة الداعي السميع



أي المسمع . وكما سمي تعالى الحكيم ، أي المحكم للأمور ، فالسمي هنا بمعنى المماثل في الصفات بحيث تكون المماثلة في الصفات كالمساماة .

والاستفهام إنكاري ، أي لا مسامي لله تعالى ، أي ليس من يساميه ، أي يضاهيه ، موجودا .

وقيل السمي : المماثل في الاسم ، كقوله في ذكر يحيى ( لم نجعل له من قبل سميا ) . والمعنى : لا تعلم له مماثلا في اسمه " الله " فإن المشركين لم يسموا شيئا من أصنامهم " الله " باللام وإنما يقولون للواحد منها إله ، فانتفاء تسمية غيره من الموجودات المعظمة باسمه كناية عن إعتراف الناس بأن لا مماثل له في صفة الخالقية ، لأن المشركين لم يجترئوا على أن يدعو لآلهتهم الخالقية قال تعالى ( ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله ) . وبذلك يتم كون الجملة تعليلا للأمر بإفراده بالعبادة على هذا الوجه أيضا .

[ ص: 144 ] وكني بانتفاء العلم بسميه عن انتفاء وجود سمي له ، لأن العلم يستلزم وجود المعلوم ، وإذا انتفى مماثله انتفى من يستحق العبادة غيره .

التالي السابق


الخدمات العلمية