الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 260 ] وقال شيخ الإسلام رحمه الله فصل قد ذم الله تعالى في القرآن من عدل عن اتباع الرسل إلى ما نشأ عليه من دين آبائه وهذا هو التقليد الذي حرمه الله ورسوله وهو : أن يتبع غير الرسول فيما خالف فيه الرسول وهذا حرام باتفاق المسلمين على كل أحد ; فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق والرسول طاعته فرض على كل أحد من الخاصة والعامة في كل وقت وكل مكان ; في سره وعلانيته وفي جميع أحواله .

                وهذا من الإيمان قال الله تعالى : { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما } وقال : { إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا } وقال : { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم } وقال : { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } وقال : { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } .

                وقد أوجب الله طاعة الرسول على جميع الناس في قريب من أربعين موضعا من القرآن وطاعته طاعة الله : وهي : عبادة الله وحده لا شريك له وذلك هو دين الله وهو الإسلام وكل من أمر الله بطاعته من عالم وأمير ووالد وزوج ; فلأن طاعته طاعة لله . وإلا فإذا أمر بخلاف طاعة الله فإنه لا طاعة له وقد يأمر الوالد والزوج بمباح فيطاع وكذلك الأمير إذا أمر عالما يعلم أنه معصية لله والعالم إذا أفتى المستفتي بما لم يعلم المستفتي أنه مخالف لأمر الله فلا يكون المطيع لهؤلاء عاصيا وأما إذا علم أنه مخالف لأمر الله فطاعته في ذلك معصية لله ; ولهذا نقل غير واحد الإجماع على أنه لا يجوز للعالم أن يقلد غيره إذا كان قد اجتهد واستدل وتبين له الحق الذي جاء به الرسول ; فهنا لا يجوز له تقليد من قال خلاف ذلك بلا نزاع ولكن هل يجوز مع قدرته على الاستدلال أنه يقلد ؟ هذا فيه قولان : فمذهب الشافعي وأحمد وغيرهما لا يجوز . وحكي عن محمد بن الحسن جوازه والمسألة معروفة وحكى بعض الناس ذلك عن أحمد [ ص: 262 ] ولم يعرف هذا الناقل قول أحمد كما هو مذكور في غير هذا الموضع .

                وتقليد العاجز عن الاستدلال للعالم يجوز عند الجمهور وفي صفة من يجوز له التقليد تفصيل ونزاع ليس هذا موضعه .

                والمقصود هنا أن التقليد المحرم بالنص والإجماع : أن يعارض قول الله ورسوله بما يخالف ذلك كائنا من كان المخالف لذلك . قال الله تعالى : { ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا } { يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا } { لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا } { وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا } وقال تعالى : { يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا } إلى قوله : { والعنهم لعنا كبيرا } .

                وقال تعالى : { إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب } إلى قوله : { ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون } فذكر براءة المتبوعين من أتباعهم في خلاف طاعة الله ذكر هذا بعد قوله : { وإلهكم إله واحد } فالإله الواحد هو المعبود والمطاع فمن أطاع [ ص: 263 ] متبوعا في خلاف ذلك فله نصيب من هذا الذم قال تعالى : { ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن } إلى قوله : { وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي } .

                ثم خاطب الناس بأكل ما في الأرض حلالا طيبا وأن لا يتبعوا خطوات الشيطان في خلاف ذلك ; فإنه إنما يأمر بالسوء والفحشاء وأن يقولوا على الله ما لا يعلمون فيقولوا : هذا حرام وهذا حلال أو غير ذلك مما يقولونه على الله في الأمور الخبرية والعملية بلا علم كما قال تعالى : { ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام } .

                ثم إن هؤلاء الذين يقولون على الله بغير علم إذا قيل لهم : { اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا } فليس عندهم علم ; بل عندهم اتباع سلفهم وهو الذي اعتادوه وتربوا عليه .

                ثم خاطب المؤمنين خصوصا فقال : { يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون } { إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله } فأمرهم بأكل الطيبات مما رزقهم لأنهم هم المقصودون بالرزق ولم يشترط الحل هنا

                [ ص: 264 ] لأنه إنما حرم ما ذكر فما سواه حلال لهم والناس إنما أمرهم بأكل ما في الأرض حلالا طيبا وهو إنما أحل للمؤمنين والكفار لم يحل لهم شيئا فالحل مشروط بالإيمان ومن لم يستعن برزقه على عبادته لم يحل له شيئا وإن كان أيضا لم يحرمه فلا يقال : إن الله أحله لهم ولا حرمه وإنما حرم على الذين هادوا ما ذكره في سورة الأنعام .

                ولهذا أنكر في سورة الأنعام وغيرها على من حرم ما لم يحرمه كقوله : { قل آلذكرين حرم أم الأنثيين } ثم قال : { وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر } ثم قال تعالى : { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم } الآيات . وقال في سورة النحل : { وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل } الآية وأخبر أنه حرم ذلك ببغيهم فقال : { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم } وقال : { ذلك جزيناهم ببغيهم } .

                وهذا كله يدل على أصح قولي العلماء وهو : أن هذا التحريم باق عليهم بعد مبعث محمد لا يزول إلا بمتابعته ; لأنه تحريم عقوبة على ظلمهم وبغيهم ; وهذا لم يزل بل زاد وتغلظ فكانوا أحق بالعقوبة .

                وأيضا فإن الله تعالى أخبر بهذا التحريم بعد مبعث محمد صلى الله عليه وسلم ليبين أنه لم يحرم إلا هذا وهذا ; فلو كان ذلك التحريم قد زال لم يستثنه .

                [ ص: 265 ] وأيضا فإن التحريم لا يزول إلا بتحليل منه وهو إنما أحل أكل الطيبات للمؤمنين بقوله : { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا } الآية وقوله : { أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد } وقوله : { يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات } إلى قوله : { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم } وهذا خطاب للمؤمنين ولهذا قال : { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } ثم قال : { وطعامكم حل لهم } فلو كان ما أحل لنا حلا لهم لم يحتج إلى هذا وقوله : { وطعامكم حل لهم } لا يدخل فيه ما حرم عليهم كما أن قوله : { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } لا يدخل فيه ما حرم علينا مما يستحلونه هم كصيد الحرم وما أهل به لغير الله .

                وهل يدخل في طعامهم الذي أحل لنا ما حرم عليهم ولم يحرم علينا . مثل ما إذا ذكوا الإبل ؟ ؟ هذا فيه نزاع معروف فالمشهور من مذهب مالك - وهو أحد القولين في مذهب أحمد - تحريمه . ومذهب أبي حنيفة والشافعي والقول الآخر في مذهب أحمد : حله .

                وهل العلة أنهم لم يقصدوا ذكاته ; أو العلة أنه ليس من طعامهم ؟ فيه نزاع .

                [ ص: 266 ] وإذا ذبحوا للمسلم : فهل هو كما إذا ذبحوا لأنفسهم ؟ فيه نزاع .

                وفي جواز ذبحهم النسك إذا كانوا ممن يحل ذبحهم قولان هما روايتان عن أحمد فالمنع مذهب مالك والجواز مذهب أبي حنيفة والشافعي فإذا كان الذابح يهوديا صار في الذبح علتان وليس هذا موضع هذه المسائل .

                ثم إنه سبحانه لما ذكر حال من يقول على الله بلا علم بل تقليدا لسلفه ذكر حال من يكتم ما أنزل الله من البينات والهدى من بعد ما بينه للناس في الكتاب فقال : { إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم } فهذا حال من كتم علم الرسول وذاك حال من عدل عنها إلى خلافها والعادل عنها إلى خلافها يدخل فيه من قلد أحدا من الأولين والآخرين فيما يعلم أنه خلاف قول الرسول سواء كان صاحبا أو تابعا أو أحد الفقهاء المشهورين الأربعة أو غيرهم .

                وأما من ظن أن الذين قلدهم موافقون للرسول فيها قالوه فإن كان قد سلك في ذلك طريقا علميا فهو مجتهد له حكم أمثاله وإن كان متكلما بلا علم فهو من المذمومين .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية