الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              القول في صيغة النهي

              اعلم أن ما ذكرناه من مسائل الأوامر تتضح به أحكام النواهي ; إذ لكل مسألة وزان من النهي على العكس فلا حاجة إلى التكرار ، ولكنا نتعرض لمسائل لا بد من إفرادها بالكلام

              مسألة : اختلفوا في أن النهي عن البيع ، والنكاح ، والتصرفات المفيدة للأحكام هل يقتضي فسادها ؟

              فذهب الجماهير إلى أنه يقتضي فسادها ، وذهب قوم إلى أنه إن كان نهيا عنه لعينه دل على الفساد ، وإن كان لغيره فلا ، والمختار أنه لا يقتضي الفساد ، وبيانه أنا نعني بالفساد تخلف الأحكام عنها ، وخروجها عن كونها أسبابا مفيدة للأحكام ، ولو صرح الشارع وقال : " حرمت عليك استيلاد جارية الابن ، ونهيتك عنه لعينه لكن إن فعلت ملكت الجارية ، ونهيتك عن الطلاق في الحيض لعينه لكن إن فعلت بانت زوجتك ، ونهيتك عن إزالة النجاسة عن الثوب بالماء المغصوب لكن إن فعلت طهر الثوب ، ونهيتك عن ذبح شاة الغير بسكين الغير من غير إذن لكن إن فعلت حلت الذبيحة " . فشيء من هذا ليس يمتنع ، ولا يتناقض بخلاف قوله : " حرمت عليك الطلاق ، وأمرتك به أو أبحته لك ، وحرمت الاستيلاد لجارية الابن ، وأوجبته عليك " فإن ذلك متناقض لا يعقل ; لأن التحريم يضاد الإيجاب ، ولا يضاده كون المحرم منصوبا علامة على حصول الملك ، والحل ، وسائر الأحكام ، إذ يتناقض أن يقول : " حرمت الزنا ، وأبحته " ولا يتناقض أن يقول : " حرمت الزنا وجعلت الفعل الحرام في عينه سببا لحصول الملك في العوضين " فإن شرط التحريم التعرض لعقاب الآخرة فقط دون تخلف الثمرات ، والأحكام عنه . فإذا ثبت هذا فقوله : " لا تبع ، ولا تطلق ، ولا تنكح لو دل على تخلف الأحكام ، وهو المراد بالفساد فلا يخلو إما أن يدل من حيث اللغة أو من حيث الشرع ، ومحال أن يدل من حيث اللغة لأن العرب قد تنهى عن الطاعات ، وعن الأسباب المشروعة ، وتعتقد ذلك نهيا حقيقيا دالا على أن المنهي ينبغي أن لا يوجد ، أما الأحكام فإنها شرعية لا يناسبها اللفظ من حيث وضع اللسان إذ يعقل أن يقول العربي : هذا العقد الذي يفيد الملك ، والأحكام إياك أن تفعله ، وتقدم عليه ، ولو صرح به الشارع أيضا لكان منتظما مفهوما .

              أما من حيث الشرع فلو قام دليل على أن النهي [ ص: 222 ] للإفساد ، ونقل ذلك عن النبي عليه السلام صريحا لكان ذلك من جهة الشرع تصرفا في اللغة بالتغيير أو كان صيغة النهي من جهته منصوبا علامة على الفساد ، ويجب قبول ذلك ، ولكن الشأن في إثبات هذه الحجة ، ونقلها ، وشبههم الشرعية أربع :

              الشبهة الأولى : قولهم : إن المنهي عنه قبيح ، ومعصية فكيف يكون مشروعا ؟ قلنا : إن أردتم بالمشروع كونه مأمورا به أو مباحا أو مندوبا فذلك محال ، ولسنا نقول به ، وإن عنيتم به كونه منصوبا علامة للملك أو الحل أو حكم من الأحكام ففيه وقع النزاع ، فلم ادعيتم استحالته ، ولم يستحل أن يحرم الاستيلاد ، وينصب سببا لملك الجارية ، ويحرم الطلاق ، وينصب سببا للفراق بل لا يستحيل أن ينهى عن الصلاة في الدار المغصوبة ، وينصب سببا لبراءة الذمة ، وسقوط الفرض ؟

              الشبهة الثانية : قولهم : إن النهي لا يرد من الشارع في البيع ، والنكاح إلا لبيان خروجه عن كونه مملكا أو مشروعا . قلنا : في هذا وقع النزاع ، فما الدليل عليه ؟ وكم من بيع ، ونكاح نهى عنه ، وبقي سببا للإفادة فما هذا التحكم .

              الشبهة الثالثة : قوله عليه السلام : { كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد ، ومن أدخل في ديننا ما ليس منه فهو رد } .

              قلنا : معنى قوله : " رد " أي : غير مقبول طاعة وقربة ، ولا شك في أن المحرم لا يقع طاعة أما أن لا يكون سببا للحكم فلا فإن الاستيلاد ، والطلاق ، وذبح شاة الغير ليس عليه أمرنا ثم ليس برد بهذا المعنى .

              الشبهة الرابعة : قولهم : أجمع سلف الأمة على الاستدلال بالمناهي على الفساد ، ففهموا فساد الربا من قوله : { وذروا ما بقي من الربا } واحتج ابن عمر رضي الله عنه في فساد نكاح المشركات بقوله : { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } ، وفي نكاح المحارم بالنهي .

              قلنا : هذا يصح من بعض الأمة أما من جميع الأمة فلا يصح ، ولا حجة في قول البعض ، نعم يتمسك به في التحريم ، والمنع أما في الإفساد فلا .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية