الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 293 ] وتجب إذا ملك العقار بعوض هو مال ، وتجب بعد البيع ، وتستقر بالإشهاد ، وتملك بالأخذ ، والمسلم والذمي والمأذون والمكاتب ومعتق البعض سواء ، وتجب للخليط في نفس المبيع ثم في حق المبيع ، ثم للجار ، وتقسم على عدد الرؤوس ، وإذا علم الشفيع بالبيع ينبغي أن يشهد في مجلس علمه على الطلب ، فإن لم يشهد بعد التمكن منه بطلت ، ثم يشهد على البائع إذا كان المبيع في يده أو على المشتري أو عند العقار ، .

ولا تسقط بالتأخير ، وإذا طلب الشفيع الشفعة عند الحاكم سأل الحاكم المدعى عليه ، فإن اعترف بملكه الذي يشفع به ، أو قامت عليه بينة ، أو نكل عن اليمين أنه ما يعلم به ثبت ملكه

وللشفيع أن يخاصم البائع إذا كان المبيع في يده ، ولا يسمع القاضي البينة إلا بحضرة المشتري ، ثم يفسخ البيع ويجعل العهدة على البائع ، وللشفيع أن يخاصم وإن لم يحضر الثمن ، فإذا قضي له لزمه إحضاره ، والوكيل بالشراء خصم في الشفعة حتى يسلم إلى الموكل ، وعلى الشفيع مثل الثمن إن كان مثليا وإلا قيمته ، وإن حط البائع عن المشتري بعض الثمن سقط عن الشفيع ، فإن حط النصف ثم النصف أخذها بالنصف الأخير ، وإن زاد المشتري في الثمن لا يلزم الشفيع ، وإن اختلفا في الثمن فالقول قول المشتري ، والبينة بينة الشفيع .

التالي السابق


( وتجب إذا ملك العقار بعوض هو مال ) حتى لو ملكه بعوض ليس بمال كالنكاح والخلع والإجارة والصلح عن دم العمد لا تجب الشفعة ، وكذا لو ملكه لا بعوض كالهبة والوصية والصدقة والإرث ، لأن الشفيع إنما يأخذها بمثل ما أخذها به الدخيل أو بقيمته ، وهذه الأشياء لا مثل لها ولا قيمة ، أما الخالية عن الأعواض فظاهر .

وأما المقابلة بالأعواض المذكورة ، أما عدم المماثلة فظاهر ، وأما القيمة فلأن قيمتها غير معلومة حقيقة ، لأن القيمة ما تقوم مقام المقوم في المعنى ، وأنه لا يتحقق في هذه الأشياء ، وإنما تقومت في النكاح والإجارة بمهر المثل وأجرة المثل ضرورة صحة العقد فلا يتعداهما ، وتجب في الموهوب بشرط العوض ابتداء لأنه بيع انتهاء على ما يأتيك في الهبة ، وكذا تجب في الصلح عن إقرار أو سكوت ؛ لأنه مقابلة المال بالمال على ما يأتي في الصلح إن شاء الله تعالى .

قال : ( وتجب بعد البيع ) لأن بالرغبة عن الملك تجب الشفعة ، وبالبيع يعرف ذلك ، ولهذا لو أقر المالك بالبيع أخذها الشفيع وإن كذبه المشتري ، وخيار البائع يمنع الشفعة لأنها لم تخرج عن ملكه ، وخيار المشتري لا يمنعه لخروجها عن ملك البائع ، وخيار الرؤية والعيب لا يمنع . قال : ( وتستقر بالإشهاد ) لأن بالإشهاد يعلم طلبه إذ لا بد من طلب المواثبة على ما يأتي ، فيحتاج إلى إثباته عند القاضي وذلك بالإشهاد ، فإذا شهد به الشهود استقرت .

قال : ( وتملك بالأخذ ) إذا أخذها من المشتري أو حكم له بها حاكم ، لأن بالعقد تم الملك للمشتري فلا ينتقل عنه إلا برضاه أو بقضاء كالرجوع في الهبة ، حتى لو باع الشفيع ما يشفع به قبل ذلك الطلب بعد الطلب بطلت شفعته ، وكذا لو مات في هذه الحالة بطلت ولا تورث .

[ ص: 294 ] قال : ( والمسلم والذمي والمأذون والمكاتب ومعتق البعض سواء ) لعموم النصوص ، ولأن السبب موجود وهو الاتصال ، والمعنى يشملهم وهو دفع الضرر .

قال : ( وتجب للخليط في نفس المبيع ، ثم في حق المبيع ، ثم للجار ) أما الخليط فلقوله - عليه الصلاة والسلام - : " الشفعة لشريك لم يقاسم " وأما في حق المبيع فلقوله - عليه الصلاة والسلام - : " جار الدار أحق بشفعة الدار والأرض ، وينتظر إن كان غائبا إذا كان طريقهما واحدا " وأما الجار فلما تقدم ، ولقوله - عليه الصلاة والسلام - : " الجار أحق بسقبه " أي بسبب قربه . وروي أنه قيل : يا رسول الله ، ما سقبه ؟ قال : " شفعته " ولأنها تثبت لدفع ضرر الجار من حيث إيقاد النار ، وإثارة الغبار ، وإعلاء الجدار; وتجب على ما ذكرنا من الترتيب لقوله - عليه الصلاة والسلام - : " الشريك أحق من الخليط ، والخليط أحق من غيره " وفي رواية : " والخليط أحق من الجار " فالشريك في الرقبة ، والخليط في الحقوق ، ولأن الشريك أخص بالضرر ، ثم الخليط ، ثم الجار ، لأن الشريك شاركهما في المعنى وزاد ، وكذلك الخليط شارك الجار وزاد عليه فيترجح لقوة السبب ، فإن سلم الشريك في الرقبة يصير كأن لم يكن فيأخذها الشريك في الحقوق ، فإن سلم أخذها الجار; والمراد الجار الملاصق وإن كان بابه إلى سكة أخرى ؛ لأنه هو الذي يستضر بما ذكرنا من المعاني .

وعن أبي يوسف لا حق لهما مع الشريك في الرقبة وإن سلم ؛ لأنه حجبهما فلا حق لهما معه كالحجب في الميراث ، ووجه الظاهر ما ذكرنا ، ولأنهم استووا في السبب لكنه تقدم لما ذكرنا ، [ ص: 295 ] فإذا سلم عمل السبب في حقهما لزوال المانع كالدين بالرهن وبغير رهن إذا أسقط المرتهن حقه ، وحق المبيع الطريق الخاص وهو ما لا يكون نافذا ، والنهر الخاص وهو ما لا تجري فيه السفن .

قال : ( وتقسم على عدد الرؤوس ) وصورته دار بين ثلاثة لأحدهما النصف وللآخر الثلث وللآخر السدس ، باع أحدهم نصيبه فالشفعة للباقين على السواء لاستوائهما في السبب وهو الاتصال ألا ترى أنه لو انفرد أحدهم أخذ الجميع ، فدل على استوائهم في السبب ، وكذا المعنى يشملهم وهو لحوق الأذى فيستوون في الاستحقاق ، وكذا لو كان لهما جاران أحدهما ملاصق من ثلاث جوانب والآخر من جانب واحد ، فهما سواء لاستوائهما في لحوق الضرر والسبب .

قال : ( وإذا علم الشفيع بالبيع ينبغي أن يشهد في مجلس علمه على الطلب ) وهذا طلب المواثبة وهو على الفور . قال - عليه الصلاة والسلام - : " الشفعة لمن واثبها " وقال - عليه الصلاة والسلام - : " إنما الشفعة كنشطة عقال ، إن قيدتها ثبتت وإلا ذهبت " وروي عن محمد أنه على المجلس لأنه تمليك فيحتاج إلى التروي والنظر فلا يبطل خياره ما لم يوجد منه ما يدل على الإعراض كخيار القبول والمخيرة .

( فإن لم يشهد بعد التمكن منه بطلت ) لأنه دليل الإعراض ، ولا تبطل إذا حمد الله أو سبحه أو سلم أو شمت لأنه لا يدل على الإعراض; وكذا إذا سأل عن المشتري وكمية المن وماهيته لأنه دليل الطلب ، ولو كان في الأربعة بعد الجمعة أو قبل الظهر فأتمها لم تبطل ، ولو زاد على ركعتين في غيرها من السنن بطلت ، ثم هذا الطلب إنما يجب عليه إذا أخبره به رجل عدل ، أو رجلان مستوران ، أو رجل وامرأتان . وعندهما يكفي خبر الواحد رجلا كان أو امرأة أو صبيا ، حرا أو عبدا إذا كان الخبر حقا ، وتمامه يأتيك في الوكالة إن شاء الله تعالى ، والمعتبر الطلب دون الإشهاد ، وإنما الإشهاد للإثبات حتى لو صدقه المشتري على الطلب لا يحتاج إلى الشهود .

قال : ( ثم يشهد على البائع إذا كان المبيع في يده أو على المشتري أو عند العقار ) وهذا طلب [ ص: 296 ] . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . التقرير ؛ لأنه قد لا يمكنه الإشهاد على طلب المواثبة لأنه على الفور فيحتاج إلى هذا الطلب الثاني للإثبات عند القاضي ، فإن كان المبيع في يد البائع لم يسلمه ، فإن شاء أشهد عليه ، وإن شاء على المشتري ، لأن كل واحد منهما خصم البائع باليد والمشتري بالملك ، وإن شاء عند المبيع لتعلق الحق به وهو أن يقول : إن فلانا باع هذه الدار ويذكر حدودها الأربعة ، وأنا شفيعها طلبت شفعتها وأطلبها الآن فاشهدوا علي بذلك ، وإن كان البائع قد سلمها لا يجوز الإشهاد عليه لأنه لم يبق خصما ، فإذا فعل ذلك لا يثبت .

( ولا تسقط بالتأخير ) وعن أبي يوسف إن تركه مجلسا أو مجلسين من مجالس الحكم بطل .

وعنه ثلاثة أيام لأنه دليل الإعراض . وقدره محمد بشهر لأن المشتري يتضرر بالتأخير لنقض تصرفاته ، فقدره بالشهر لأنه أقل الآجل وأكثر العاجل ، ومرادهما إذا ترك لغير عذر .

ولأبي حنيفة أنه حق ثبت فلا يسقط بالتأخير كسائر الحقوق ، وضرر المشتري يمكن دفعه بالمرافعة إلى القاضي حتى يوقت له وقتا يوفيه فيه الثمن وإلا يبطل حقه . قال في الهداية والفتوى على قول أبي حنيفة . وقال في المحيط : والفتوى على قولهما دفعا للضرر عن المشتري لأنه قد يختفي الشفيع فلا يقدر على إحضاره إلى القاضي فيدفع الضرر بقولهما .

قال : ( وإذا طلب الشفيع الشفعة عند الحاكم سأل الحاكم المدعى عليه ، فإن اعترف بملكه الذي يشفع به ، أو قامت عليه بينة ، أو نكل عن اليمين أنه ما يعلم به ثبت ملكه ) وينبغي أن يسأل المدعي أولا عن موضع الدار وحدودها نفيا للاشتباه ، ثم يسأله عن سبب الاستحقاق لاختلاف الأسباب ، فإذا بين ذلك وقال أنا شفيعها بدار لي تلاصقها صحت دعواه ، وشرط بعضهم تحديد داره أيضا ، ثم بعد ذلك يسأل القاضي المدعى عليه ، فإن اعترف بملكه الذي يشفع به فلا حاجة إلى البينة ، وإن لم يعترف طلب من المدعي البينة; لأن اليد لا تكفي للاستحقاق ، فإن أقامها يثبت وإلا استحلف المدعى عليه بالله لا يعلم أنه مالك للدار التي ذكرها يشفع بها ؛ لأنه لو أقر بذلك لزمه ، فإذا أنكر عليه يحلف ويحلف على العلم لأنه فعل الغير ، فإذا نكل ثبت الملك ، ثم يسأله القاضي عن الشراء ، فإن اعترف به أو قامت البينة عليه ثبت وإلا استحلف المشتري بالله ما ابتاع أو ما يستحق عليه شفعة من الوجه الذي ذكر ، ويستحلف على البتات لأنه فعله ، فإذا نكل قضى له بالشفعة ، وإن لم يحضر الثمن ذكره في الأصل لأن الثمن إنما يجب بانتقال الملك إليه ، ولا [ ص: 297 ] ينتقل إلا بالقضاء فلا يجب الإحضار قبله كما لا يجب على المشتري قبل البيع .

وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه لا يقضي ما لم يحضر الثمن ؛ لأنه قد يكون مفلسا فيتضرر المشتري ، وهو مروي عن محمد ، وإذا قضى له وأخذها من المشتري يثبت له فيها أحكام البيع من خيار رؤية وعيب وغيرهما لأنه بمنزلة الشراء لأنه مقابلة مال بمال ، ولا يثبت له خيار الشرط ولا الأجل لعدم الشرط .

قال : ( وللشفيع أن يخاصم البائع إذا كان المبيع في يده ) لأنه خصم على ما بينا .

( ولا يسمع القاضي البينة إلا بحضرة المشتري ، ثم يفسخ البيع ويجعل العهدة على البائع ) لأن اليد للبائع والملك للمشتري والقاضي يقضي بها للشفيع فيشترط حضورهما ، بخلاف ما بعد القبض لأن البائع كالأجنبي ، فإذا أخذها من البائع تتحول الصفقة ويصير كأن الشفيع اشتراها من البائع ، فلهذا تكون العهدة عليه ، ولو أخذها من المشتري بعد القبض فالعهدة عليه لأنه تم ملكه بالقبض .

قال : ( وللشفيع أن يخاصم وإن لم يحضر الثمن ، فإذا قضي له لزمه إحضاره ) وقد تقدم الكلام فيه .

قال : ( والوكيل بالشراء خصم في الشفعة حتى يسلم إلى الموكل ) لأن حقوق العقد ترجع إلى الوكيل على ما يأتي بيانه في الوكالة إن شاء الله تعالى ، والشفعة من حقوق العقد ، فإذا أسلمها إلى الموكل لم يبق له يد ولا ملك فيصير الموكل خصما .

قال : ( وعلى الشفيع مثل الثمن إن كان مثليا وإلا قيمته ) لأن القاضي حكم له بالملك بالعقد الأول ، فيجب عليه ما وجب بالعقد الأول .

وإن اشترى الذمي دارا بخمر أو خنزير والشفيع ذمي أخذها بمثل الخمر لأنه مثلي ، وقيمة الخنزير لأنه ليس بمثلي ، وإن كان مسلما أخذها بقيمة كل واحد منهما ، أما الخنزير فلما مر ، وأما الخمر فلأنه ممنوع من تمليكها وتملكها فاستحال المثل في حقه فيصار إلى القيمة .

قال : ( وإن حط البائع عن المشتري بعض الثمن سقط عن الشفيع ) لما تقدم أن الحط يلتحق بأصل العقد .

[ ص: 298 ] ( فإن حط النصف ثم النصف أخذها بالنصف الأخير ) لأنه لما حط النصف الأول التحق بأصل العقد فوجب عليه نصف الثمن ، فلما حط النصف الآخر كان حطا للجميع فلا يسقط ، ألا ترى أنه لو حط الجميع ابتداء لا يسقط عن الشفيع ؛ لأنه لا يلتحق بأصل العقد بل يكون هبة فلا يسقط عن الشفيع .

( وإن زاد المشتري في الثمن لا يلزم الشفيع ) لاحتمال أنهما تواضعا على ذلك إضرارا بالشفيع ، بخلاف الحط لأنه نفع له .

قال : ( وإن اختلفا في الثمن فالقول قول المشتري ، والبينة بينة الشفيع ) لأن الشفيع يدعي استحقاق الدار عند أداء الأقل ، والبينة بينة المدعي ، والمشتري ينكر ذلك ، والقول قوله مع يمينه .




الخدمات العلمية