الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        [ ص: 334 ] الباب الثاني في عقد الذمة

                                                                                                                                                                        ويقال لها : الموادعة ، والمعاهدة ، وهي جائزة بنصوص الكتاب والسنة والإجماع ، فيه طرفان : الأول : في شروطها وهي أربعة : الأول : أن يتولاه الإمام أو نائبه فيه ، هذا في مهادنة الكفار مطلقا ، أو أهل إقليم ، كالهند والروم ، ويجوز لوالي الإقليم المهادنة مع أهل قرية أو بلدة في إقليمه للمصلحة ، وكأنه مأذون فيه بتفويض مصلحة الإقليم إليه . ولو عقد الهدنة واحد من الرعية ، فدخل قوم ممن هادنهم دار الإسلام ، لم يقروا ، لكن يلحقون بمأمنهم ، لأنهم دخلوا على اعتقاد أمانه .

                                                                                                                                                                        الثاني : أن يكون للمسلمين إليه حاجة وفيه مصلحة ، بأن يكون في المسلمين ضعف لقلة عدد أو مال ، أو بعد العدو ، أو يطمع في إسلامهم لمخالطتهم المسلمين ، أو في قبولهم الجزية ، أو في أن يعينوه على قتال غيرهم ، وإذا طلب الكفار الهدنة ، فإن كان فيها ضرر على المسلمين فلا يخفى أنهم لا يجابون ، وإلا فوجهان ، أحدهما : تجب إجابتهم ، والصحيح : لا تجب ، بل يجتهد الإمام ويفعل الأصلح ، قال الإمام : وما يتعلق باجتهاد الإمام لا يعد واجبا ، وإن كان يتعين عليه رعاية الأصح .

                                                                                                                                                                        الثالث : أن يخلو عن الشروط الفاسدة ، فإن عقدها على أن لا ينتزع أسرى المسلمين منهم ، أو يرد إليهم المسلم الذي أسروه ، وأفلت منهم ، أو شرط ترك مال مسلم في أيديهم ، فهذه شروط فاسدة ، وكذا لو شرط أن يعقد لهم الذمة على أقل من دينار ، أو على أن يقيموا [ ص: 335 ] بالحجاز ، أو يدخلوا الحرم ، أو يظهروا الخمور في دارنا ، أو شرط أن يرد عليهم إذا جئن مسلمات ، وكذا ولو عقد بشرط التزام مال ، فإن دعت ضرورة إلى بذل مال ، بأن كانوا يعذبون الأسرى في أيديهم ففديناهم ، أو أحاطوا بنا وخفنا الاصطدام ، فيجوز بذل المال ، ودفع أعظم الضررين بأخفهما ، وفي وجوب بذل المال عند الضرورة وجهان بناء على وجوب دفع الصائل .

                                                                                                                                                                        قلت : ليس هذا البناء بصحيح ، فقد سبق أن الصائل إذا كان كافرا ، وجب دفعه قطعا ، ثم الخلاف هناك في وجوب الدفع بالقتال ، وهنا بالمال ، والأصح وجوب البذل هنا للضرورة . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        ولا يملك الكفار ما يأخذونه ، لأنه مأخوذ بغير حق ، قاله في " المهذب " وإذا جرى في المهادنة شرط فاسد ، فسد به العقد على الصحيح ، وبه قطع ابن الصباغ وغيره .

                                                                                                                                                                        الرابع : أن يقتصر على المدة المشروعة ، ثم لا يخلو إما أن لا يكون بالمسلمين ضعف ، أو يكون ، فإن لم يكن ورأى الإمام المصلحة في الهدنة ، هادن أربعة أشهر فأقل ، ولا يجوز أكثر من سنة قطعا ، ولا سنة على المذهب ولا ما بينهما وبين أربعة أشهر على الأظهر وإن كان بالمسلمين ضعف جازت الزيادة إلى عشر سنين بحسب الحاجة ، ولا تجوز زيادة على العشر ، لكن إن انقضت المدة والحاجة باقية ، استؤنف العقد ، وقيل : تجوز الزيادة على عشر بحسب الحاجة ، وقيل : لا يجوز أكثر من سنة ، وقيل : لا يجوز أكثر من أربعة أشهر ، وهذه أوجه شاذة مردودة ، فإذا قلنا لا تجوز الزيادة على عشر ، فهادن مطلقا ، فالعقد فاسد ، وقيل : ينزل عند ضعف المسلمين على عشر ، وعند القوة قولان ، [ ص: 336 ] أحدهما : ينزل على سنة ، والثاني : على أربعة أشهر ، ويجوز أن لا يوقف الإمام الهدنة ، ويشرط انقضاءها متى شاء ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - هادن يهود خيبر وقال : " أقركم ما أقركم الله " لكن لو اقتصر الإمام على هذه اللفظة ، أو قال : هادنتكم إلى أن يشاء الله فسد العقد ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم ما عند الله بالوحي بخلاف غيره ، ولو قال : هادنتكم ما شاء فلان ، وهو مسلم عدل ذو رأي ، فإذا نقضها ، انتقضت ، ولو قال : ما شاء فلان منكم ، لم يجز ; لأن الكافر لا يحكم على المسلمين .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        إذا زاد قدر مدة الهدنة على الجائز ، بأن زاد عند الضعف على عشر سنين ، أو احتاج إلى أربع مثلا ، فزاد ، بطل العقد في الزائد ، وفي الباقي قولا تفريق الصفقة ، وقيل : يصح فيه قطعا لعدم العوض ، ولأنه يتسامح في معاقدة الكفار .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        إذا طلب الكافر الأمان ليسمع كلام الله تعالى ، وجبت إجابته قطعا كما سبق ، قال الإمام : وهل يمهل لذلك أربعة أشهر أم يقال : إذا لم يفصل الأمر بمجالس يحصل فيها البيان التام يقال له : الحق بمأمنك ؟ فيه تردد أخذته من فحوى كلام الأصحاب ، والأصح : المنع .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية