الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب عدد الطلاق

قال الله - عز وجل -: الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ؛ قال أبو بكر : قد ذكرت في معناه وجوه؛ أحدها أنه بيان للطلاق الذي تثبت معه الرجعة ؛ يروى ذلك عن عروة بن الزبير ؛ وقتادة ؛ والثاني أنه بيان لطلاق السنة المندوب إليه؛ ويروى ذلك عن ابن عباس ؛ ومجاهد ؛ والثالث أنه أمر بأنه إذا أراد أن يطلقها ثلاثا فعليه تفريق الطلاق؛ فيتضمن الأمر بالطلاق مرتين؛ ثم ذكر بعدهما الثالثة.

قال أبو بكر : فأما قول من قال: إنه بيان لما يبقى معه الرجعة من الطلاق؛ وإن ذكر معه الرجعة عقيبه؛ فإن ظاهره يدل على أنه قصد به بيان المباح منه؛ وأما ما عداه فمحظور؛ وبين مع ذلك حكمه إذا أوقعه على الوجه المأمور به بذكر الرجعة عقيبه؛ والدليل على أن المقصد فيه الأمر بتفريق الطلاق ؛ وبيان حكم ما يتعلق بإيقاع ما دون الثلاث من الرجعة؛ أنه قال: الطلاق مرتان ؛ وذلك يقتضي التفريق لا محالة; لأنه لو طلق اثنتين معا لما جاز أن يقال: "طلقها مرتين"؛ وكذلك لو دفع رجل إلى آخر درهمين لم يجز أن يقال: "أعطاه مرتين"؛ حتى يفرق الدفع؛ فحينئذ يطلق عليه.

وإذا كان هذا هكذا؛ فلو كان الحكم المقصود باللفظ هو ما تعلق بالتطليقتين من بقاء الرجعة؛ لأدى ذلك إلى إسقاط فائدة ذكر المرتين؛ إذا كان هذا الحكم ثابتا في المرة الواحدة إذا طلق اثنتين؛ فثبت بذلك أن ذكره للمرتين إنما هو أمر بإيقاعه مرتين؛ ونهي عن الجمع بينهما في مرة واحدة.

ومن جهة أخرى أنه لو كان اللفظ محتملا للأمرين لكان الواجب حمله [ ص: 74 ] على إثبات الحكم في إيجاب الفائدتين؛ وهما: الأمر بتفريق الطلاق ؛ متى أراد أن يطلق اثنتين؛ وبيان حكم الرجعة؛ إذا طلق كذلك؛ فيكون اللفظ مستوعبا للمعنيين.

وقوله (تعالى): الطلاق مرتان ؛ وإن كان ظاهره الخبر؛ فإن معناه الأمر؛ كقوله (تعالى): والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ؛ والوالدات يرضعن أولادهن ؛ وما جرى هذا المجرى مما هو في صيغة الخبر؛ ومعناه الأمر؛ والدليل على أنه أمر؛ وليس بخبر؛ أنه لو كان خبرا لوجد مخبره على ما أخبر به; لأن أخبار الله (تعالى) لا تنفك من وجود مخبراتها؛ فلما وجدنا الناس قد يطلقون الواحدة؛ والثلاث معا - ولو كان قوله (تعالى): الطلاق مرتان ؛ اسما للخبر لاستوعب جميع ما تحته -؛ ثم وجدنا في الناس من يطلق لا على الوجه المذكور في الآية؛ علمنا أنه لم يرد الخبر؛ وأنه تضمن أحد معنيين: إما الأمر بتفريق الطلاق ؛ متى أردنا الإيقاع؛ أو الإخبار عن المسنون المندوب إليه منه؛ وأولى الأشياء حمله على الأمر؛ إذ قد ثبت أنه لم يرد به حقيقة الخبر; لأنه حينئذ يصير بمعنى قوله: "طلقوا مرتين؛ متى أردتم الطلاق"؛ وذلك يقتضي الإيجاب؛ وإنما ينصرف إلى الندب بدلالة؛ ويكون كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الصلاة مثنى مثنى؛ والتشهد في كل ركعتين؛ وتمسكن؛ وخشوع"؛ فهذه صيغة الخبر؛ والمراد الأمر بالصلاة على هذه الصفة.

وعلى أنه إن حمل على أن المراد بيان المسنون من الطلاق كانت دلالته قائمة على حظر جمع الاثنتين؛ أو الثلاث; لأن قوله: الطلاق مرتان ؛ منتظم لجميع الطلاق المسنون؛ فلا يبقى شيء من مسنون الطلاق إلا وقد انطوى تحت هذا اللفظ؛ فإذا ما خرج عنه فهو على خلاف السنة؛ فثبت بذلك أن من جمع اثنتين؛ أو ثلاثا؛ في كلمة فهو مطلق لغير السنة؛ فانتظمت هذه الآية الدلالة على معان؛ منها أن مسنون الطلاق التفريق بين أعداد الثلاث؛ إذا أراد أن يطلق ثلاثا؛ ومنها أن له أن يطلق اثنتين في مرتين؛ ومنها أن ما دون الثلاث تثبت معه الرجعة؛ ومنها أنه إذا طلق اثنتين في الحيض وقعتا; لأن الله (تعالى) قد حكم بوقوعهما؛ ومنها أنه نسخت هذه الآية الزيادة على الثلاث؛ على ما روي عن ابن عباس ؛ وغيره؛ أنهم كانوا يطلقون ما شاؤوا من العدد؛ ثم يراجعون؛ فقصروا على الثلاث؛ ونسخ به ما زاد.

ففي هذه الآية دلالة على حكم العدد المسنون من الطلاق؛ وليس فيها ذكر الوقت المسنون فيه إيقاع الطلاق؛ وقد بين الله ذلك في قوله (تعالى): فطلقوهن لعدتهن ؛ وبين لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - طلاق العدة؛ فقال لابن عمر - حين طلق امرأته وهي حائض -: "ما هكذا أمرك الله؛ إنما طلاق العدة أن تطلقها طاهرا من غير جماع؛ [ ص: 75 ] أو حاملا وقد استبان حملها؛ فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء".

فكان طلاق السنة معقودا بوصفين؛ أحدهما العدد؛ والآخر الوقت؛ فأما العدد فألا يزيد في طهر واحد على واحدة؛ وأما الوقت فأن يطلقها طاهرا من غير جماع؛ أو حاملا قد استبان حملها.

وقد اختلف أهل العلم في طلاق السنة لذوات الأقراء ؛ فقال أصحابنا: أحسن الطلاق أن يطلقها إذا طهرت قبل الجماع؛ ثم يتركها حتى تنقضي عدتها؛ وإن أراد أن يطلقها ثلاثا؛ طلقها عند كل طهر واحدة قبل الجماع؛ وهو قول الثوري ؛ وقال أبو حنيفة : وبلغنا عن إبراهيم؛ عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنهم كانوا يستحبون ألا يزيدوا في الطلاق على واحدة حتى تنقضي العدة؛ وأن هذا عندهم أفضل من أن يطلقها ثلاثا عند كل طهر واحدة.

وقال مالك ؛ وعبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون؛ والليث بن سعد ؛ والحسن بن صالح ؛ والأوزاعي : "طلاق السنة أن يطلقها في طهر قبل الجماع تطليقة واحدة"؛ ويكرهون أن يطلقها ثلاثا في ثلاثة أطهار؛ لكنه إن لم يرد رجعتها تركها حتى تنقضي عدتها من الواحدة.

وقال الشافعي - فيما رواه عنه المزني -: لا يحرم عليه أن يطلقها ثلاثا؛ ولو قال لها: "أنت طالق ثلاثا للسنة"؛ وهي طاهر من غير جماع؛ طلقت ثلاثا معا.

قال أبو بكر : فنبدأ بالكلام على الشافعي في ذلك؛ فنقول: إن دلالة الآية التي تلوتها ظاهرة في بطلان هذه المقالة؛ لأنها تضمنت الأمر بإيقاع الاثنتين في مرتين؛ فمن أوقع الاثنتين في مرة فهو مخالف لحكمها؛ ومما يدل على ذلك قوله (تعالى): لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ؛ وظاهره يقتضي تحريم الثلاث؛ لما فيها من تحريم ما أحل لنا من الطيبات؛ والدليل على أن الزوجات قد تناولهن هذا العموم قوله (تعالى): فانكحوا ما طاب لكم من النساء ؛ فوجب بحق العموم حظر الطلاق الموجب لتحريمها؛ ولولا قيام الدلالة في إباحة إيقاع الثلاث في وقت السنة؛ وإيقاع الواحدة لغير المدخول بها؛ لاقتضت الآية حظره.

ومن جهة أخرى؛ من دلائل الكتاب أن الله (تعالى) لم يبح الطلاق ابتداء لمن تجب عليها العدة إلا مقرونا بذكر الرجعة؛ منها قوله (تعالى): الطلاق مرتان فإمساك بمعروف ؛ وقوله (تعالى): والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ؛ وقوله (تعالى): وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ؛ أو فارقوهن بمعروف ؛ فلم يبح الطلاق المبتدأ لذوات العدد إلا مقرونا بذكر الرجعة؛ وحكم الطلاق مأخوذ من هذه الآيات؛ لولاها لم يكن الطلاق من أحكام الشرع؛ فلم يجز لنا إثباته مسنونا إلا على هذه [ ص: 76 ] الشريطة؛ وبهذا الوصف؛ وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من أدخل في أمرنا ما ليس منه فهو رد"؛ وأقل أحوال هذا اللفظ حظر خلاف ما تضمنته الآيات التي تلونا؛ من إيقاع الطلاق المبتدإ مقرونا بما يوجب الرجعة.

ويدل عليه من جهة السنة ما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا القعنبي؛ عن مالك ؛ عن ابن عمر ؛ أنه طلق امرأته وهي حائض؛ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأل عمر بن الخطاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك؛ فقال: "مره فليراجعها؛ ثم ليمسكها حتى تطهر؛ ثم تحيض؛ ثم تطهر؛ ثم إن شاء أمسك بعد ذلك؛ وإن شاء طلق قبل أن يمس؛ فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء"؛ وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا أحمد بن صالح قال: حدثنا عنبسة قال: حدثنا يونس ؛ عن ابن شهاب قال: أخبرني سالم بن عبد الله ؛ عن أبيه؛ أنه طلق امرأته وهي حائض؛ فذكر ذلك عمر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فتغيظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: "مره فليراجعها؛ ثم ليمسكها حتى تطهر؛ ثم تحيض؛ ثم تطهر؛ ثم إن شاء طلقها طاهرا قبل أن يمس؛ فذلك الطلاق للعدة كما أمر الله"؛ فذكر سالم في رواية الزهري عنه؛ ونافع عن ابن عمر ؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يراجعها؛ ثم يدعها حتى تطهر؛ ثم تحيض؛ ثم تطهر؛ ثم إن شاء طلق؛ أو أمسك.

وروي عن عطاء الخراساني ؛ عن الحسن؛ عن ابن عمر مثله؛ وروى يونس؛ وأنس بن سيرين؛ وسعيد بن جبير ؛ وزيد بن أسلم ؛ عن ابن عمر ؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يراجعها حتى تطهر؛ ثم قال: "إن شاء طلق؛ وإن شاء أمسك"؛ والأخبار الأول أولى؛ لما فيها من الزيادة؛ ومعلوم أن جميع ذلك إنما ورد في قصة واحدة؛ وإنما ساق بعضهم لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - على وجهه؛ وحذف بعضهم ذكر الزيادة؛ إغفالا؛ أو نسيانا؛ فوجب استعماله بما فيه من زيادة ذكر الحيضة؛ إذ لم يثبت أن الشارع - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك عاريا من ذكر الزيادة؛ وذكره مرة مقرونا بها؛ إذ كان فيه إثبات القول منه في حالين؛ وهذا مما لا نعلمه؛ فغير جائز إثباته؛ وعلى أنه لو كان الشارع - صلى الله عليه وسلم - قد قال ذلك في حالين؛ لم يخل من أن يكون المتقدم منهما هو الخبر الذي فيه الزيادة؛ والآخر متأخرا عنه؛ فيكون ناسخا له؛ وأن يكون الذي لا زيادة فيه هو المتقدم؛ ثم ورد بعده ذكر الزيادة؛ فيكون ناسخا للأول؛ بإثبات الزيادة؛ ولا سبيل لنا إلى العلم بتاريخ الخبرين؛ لا سيما وقد أشار الجميع من الرواة إلى قصة واحدة؛ فإذا لم يعلم التاريخ وجب إثبات الزيادة من وجهين؛ أحدهما أن كل شيئين لا يعلم تاريخهما فالواجب الحكم بهما معا؛ ولا يحكم بتقدم أحدهما على الآخر؛ كالغرقى والقوم يقع عليهم البيت؛ وكما نقول في البيعين [ ص: 77 ] من قبل رجل واحد: "إذا قامت عليهما البينة؛ ولم يعلم تاريخهما؛ فيحكم بوقوعهما معا"؛ فكذلك هذان الخبران؛ وجب الحكم بهما معا؛ إذ لم يثبت لهما تاريخ؛ فلم يثبت الحكم إلا مقرونا بالزيادة المذكورة فيه.

والوجه الآخر أنه قد ثبت أن الشارع قد ذكر الزيادة وأثبتها؛ وأمر باعتبارها؛ بقوله: "مره فليدعها حتى تطهر؛ ثم تحيض؛ ثم تطهر؛ ثم يطلقها إن شاء"؛ لورودها من طرق صحيحة؛ فإذا كانت ثابتة في وقت؛ واحتمل أن تكون منسوخة بالخبر الذي فيه حذف الزيادة؛ واحتمل أن تكون غير منسوخة؛ لم يجز لنا إثبات النسخ بالاحتمال؛ ووجب بقاء حكم الزيادة؛ ولما ثبت ذلك؛ وأمر الشارع - صلى الله عليه وسلم - بالفصل بين التطليقة الموقعة في الحيض؛ وبين الأخرى؛ التي أمره بإيقاعها؛ بحيضة؛ ولم يبح له إيقاعها في الطهر الذي يلي الحيضة؛ ثبت إيجاب الفصل بين كل تطليقتين بحيضة؛ وأنه غير جائز له الجمع بينهما في طهر واحد; لأنه - صلى الله عليه وسلم - كما أمره بإيقاعها في الطهر؛ ونهاه عنها في الحيض؛ فقد أمره أيضا بألا يواقعها في الطهر الذي يلي الحيضة التي طلقها فيها؛ ولا فرق بينهما.

فإن قيل: قد روي عن أبي حنيفة أنه إذا طلقها؛ ثم راجعها في ذلك الطهر؛ جاز له إيقاع تطليقة أخرى في ذلك الطهر؛ فقد خالف بذلك ما أردت تأكيده من الزيادة المذكورة في الخبر؛ قيل له: ذكرنا هذه المسألة في الأصول؛ ومنعه من إيقاع التطليقة الثانية في ذلك الطهر؛ وإن راجعها؛ حتى يفصل بينهما بحيضة؛ وهذا هو الصحيح؛ والرواية الأخرى غير معمول عليها؛ وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في النهي عن إيقاع الثلاث مجموعة؛ بما لا مساغ للتأويل فيه؛ وهو ما حدثنا ابن قانع قال: حدثنا محمد بن شاذان الجوهري قال: حدثنا معلى بن منصور قال: حدثنا سعيد بن زريق؛ أن عطاء الخراساني حدثهم عن الحسن قال: حدثنا عبد الله بن عمر أنه طلق امرأته تطليقة وهي حائض؛ ثم أراد أن يتبعها بتطليقتين أخريين عند القرأين الباقيين؛ فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يا ابن عمر ; ما هكذا أمرك الله؛ إنك قد أخطأت السنة؛ والسنة أن تستقبل الطهر فتطلق لكل قرء"؛ فأمرني رسول الله فراجعتها؛ وقال: "إذا هي طهرت فطلق عند ذلك؛ أو أمسك"؛ فقلت: يا رسول الله; أرأيت لو كنت طلقتها ثلاثا؛ أكان لي أن أراجعها؟ قال: "لا؛ كانت تبين؛ وتكون معصية"؛ فأخبر - صلى الله عليه وسلم - نصا في هذا الحديث بكون الثلاث معصية؛ فإن قيل: لما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في سائر أخبار ابن عمر - حين ذكر الطهر الذي هو وقت لإيقاع طلاق السنة -: "ثم ليطلقها إن شاء"؛ ولم يخصص ثلاثا مما دونها؛ كان ذلك إطلاقا للاثنتين؛ والثلاث معا؛ قيل [ ص: 78 ] له: لما ثبت بما قدمنا؛ من إيجابه الفصل بين التطليقتين بحيضة؛ ثم عطف عليه بقوله: "ثم ليطلقها إن شاء؛ علمنا أنه إنما أراد واحدة؛ لا أكثر منها؛ لاستحالة إرادته نسخ ما أوجبه بديا من إيجابه الفصل بينهما؛ وما اقتضاه ذلك من حظر الجمع بين تطليقتين؛ إذ غير جائز وجود الناسخ؛ والمنسوخ في خطاب واحد; لأن النسخ لا يصح إلا بعد استقرار الحكم؛ والتمكن من الفعل؛ ألا ترى أنه لا يجوز أن يقول في خطاب واحد: "قد أبحت لكم هذا الناب من السباع؛ وقد حظرته عليكم"؟ لأن ذلك عبث؛ والله (تعالى) منزه عن فعل العبث؛ وإذا ثبت ذلك علمنا أن قوله: "ثم ليطلقها إن شاء"؛ مبني على ما تقدم من حكمه في ابتداء الخطاب؛ وهو ألا يجمع بين اثنتين في طهر واحد؛ وأيضا فلو خلا هذا اللفظ من دلالة حظر الجمع بين التطليقتين في طهر واحد؛ لما دل على إباحته لوروده مطلقا عاريا من ذكر ما تقدم; لأن قوله: "ثم ليطلقها إن شاء"؛ لم يقتض اللفظ فيه أكثر من واحد؛ وكذلك نقول في نظائر ذلك من الأوامر: إنه إنما يقتضي أدنى ما يتناوله الاسم؛ وإنما يصرف إلى الأكثر بدلالة - كقول الرجل لآخر: "طلق امرأتي" - أن الذي يجوز له إيقاعه بالأمر إنما هو تطليقة واحدة؛ لا أكثر منها؛ وكذلك قال أصحابنا - فيمن قال لعبده: "تزوج" -: إنه يقع على امرأة واحدة؛ فإن تزوج اثنتين لم يجز نكاح واحدة منهما إلا أن يقول المولى: أردت اثنتين؛ وكذلك قوله: "فليطلقها إن شاء"؛ لم يقتض إلا تطليقة واحدة؛ وما زاد عليها فإنما يثبت بدلالة.

فهذا الذي قدمناه من دلالة الكتاب؛ والسنة على حظر جمع الثلاث؛ والاثنتين في كلمة واحدة؛ قد ورد بمثله اتفاق السلف؛ من ذلك ما روى الأعمش ؛ عن أبي إسحاق ؛ عن أبي الأحوص ؛ عن عبد الله أنه قال: "طلاق السنة أن يطلقها تطليقة واحدة؛ وهي طاهر؛ في غير جماع؛ فإذا حاضت وطهرت؛ طلقها أخرى"؛وقال إبراهيم مثل ذلك.

وروى زهير عن أبي إسحاق ؛ عن أبي الأحوص ؛ عن عبد الله قال: من أراد الطلاق الذي هو الطلاق؛ فليطلق عند كل طهر من غير جماع؛ فإن بدا له أن يراجعها راجعها؛ وأشهد رجلين؛ وإذا كانت الثانية في مرة أخرى فكذلك؛ فإن الله (تعالى) يقول: الطلاق مرتان ؛ وروى ابن سيرين ؛ عن علي قال: لو أن الناس أصابوا حد الطلاق ما ندم أحد على امرأة يطلقها وهي طاهر من غير جماع؛ أو حاملا قد تبين حملها؛ فإذا بدا له أن يراجعها راجعها؛ وإن بدا له أن يخلي سبيلها خلى سبيلها.

وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا حميد بن مسعدة قال: حدثنا إسماعيل قال: أخبرنا أيوب عن عبد الله بن كثير ؛ عن مجاهد [ ص: 79 ] قال: كنت عند ابن عباس ؛ فجاءه رجل فقال له إنه طلق امرأته ثلاثا؛ قال: فسكت ابن عباس حتى ظننت أنه رادها إليه؛ ثم قال: ينطلق أحدكم فيركب الأحموقة؛ ثم يقول: يا ابن عباس ; يا ابن عباس ; وإن الله (تعالى) قال: ومن يتق الله يجعل له مخرجا ؛ وإنك لم تتق الله؛ فلم أجد لك مخرجا؛ عصيت ربك؛ وبانت منك امرأتك؛ وإن الله (تعالى) قال: يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن ؛ أي قبل عدتهن.

وعن عمران بن حصين ؛ أن رجلا قال له: إني طلقت امرأتي ثلاثا؛ فقال: أثمت بربك؛ وحرمت عليك امرأتك؛ وأبو قلابة قال: سئل ابن عمر عن رجل طلق امرأته ثلاثا؛ قبل أن يدخل بها؛ فقال: لا أرى من فعل ذلك إلا قد حرج؛ وروى ابن عون عن الحسن قال: كانوا ينكلون من طلق امرأته ثلاثا في مقعد واحد؛ وروي عن ابن عمر أنه كان إذا أتي برجل طلق امرأته ثلاثا في مجلس واحد؛ أوجعه ضربا؛ وفرق بينهما؛ فقد ثبت عن هؤلاء الصحابة حظر جمع الثلاث؛ ولا يروى عن أحد من الصحابة خلافه؛ فصار إجماعا.

فإن قيل: قد روي أن عبد الرحمن بن عوف طلق امرأته ثلاثا في مرضه؛ وأن ذلك لم يعب عليه؛ ولو كان جمع الثلاث محظورا لما فعله؛ وتركهم النكير عليه دليل على أنهم رأوه سائغا له؛ قيل له: ليس في الحديث الذي ذكرت؛ ولا في غيره أنه طلق ثلاثا في كلمة واحدة؛ وإنما أراد أنه طلقها ثلاثا على الوجه الذي جوز عليه الطلاق؛ وقد بين ذلك في أحاديث رواها جماعة عن الزهري ؛ عن طلحة بن عبد الله بن عوف ؛ أن عبد الرحمن بن عوف طلق امرأته تماضر تطليقتين؛ ثم قال لها في مرضه: إن أخبرتني بطهرك لأطلقنك؛ فبين في هذا الحديث أنه لم يطلقها ثلاثا مجتمعة.

وقد روي في حديث فاطمة بنت قيس شبيها بهذا؛ وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا أبان ابن يزيد العطار قال: حدثنا يحيى بن أبي كثير قال: حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن ؛ أن فاطمة بنت قيس حدثته أن أبا حفص بن المغيرة طلقها؛ وأن خالد بن الوليد ونفرا من بني مخزوم أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا نبي الله; إن أبا حفص بن المغيرة طلق امرأته ثلاثا؛ وإنه ترك لها نفقة يسيرة؛ فقال: "لا نفقة لها"؛ وساق الحديث؛ فيقول المحتج لإباحة إيقاع الثلاث معا بأنهم قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إنه طلقها ثلاثا؛ فلم ينكره؛ وهذا خبر قد أجمل فيه ما فسر في غيره؛ وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا يزيد بن خالد الرملي قال: حدثنا الليث عن عقيل ؛ عن ابن شهاب ؛ عن أبي سلمة ؛ عن فاطمة بنت قيس أنها أخبرته أنها كانت عند [ ص: 80 ] أبي حفص بن المغيرة ؛ وأن أبا حفص بن المغيرة طلقها آخر ثلاث تطليقات؛ فزعمت أنها جاءت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ وذكر الحديث؛ قال أبو داود : وكذلك رواه صالح بن كيسان؛ وابن جريج ؛ وشعيب بن أبي حمزة ؛ كلهم عن الزهري ؛ فبين في هذا الحديث ما أجمل في الحديث الذي قبله؛ أنه إنما طلقها آخر ثلاث تطليقات؛ وهو أولى؛ لما فيه من الإخبار عن حقيقة الأمر؛ والأول فيه ذكر الثلاث؛ ولم يذكر إيقاعهن معا؛ فهو محمول على أنه فرقهن؛ على ما ذكر في هذا الحديث الذي قبله؛ فثبت بما ذكرنا من دلائل الكتاب؛ والسنة؛ واتفاق السلف؛ أن جمع الثلاث محظور.

فإن قيل فيما قدمناه من دلالة قوله (تعالى): الطلاق مرتان ؛ على حظر جمع الاثنتين في كلمة واحدة : إنه من حيث دل على ما ذكرت فهو دليل على أن له أن يطلقها في طهر واحد مرتين؛ إذ ليس في الآية تفريقهما في طهرين؛ وفيه إباحة تطليقتين في مرتين؛ وذلك يقتضي إباحة تفريق الاثنتين في طهر واحد؛ وإذا جاز ذلك في طهر واحد جاز جمعهما بلفظ واحد؛ إذ لم يفرق أحد بينهما؛ قيل له: هذا غلط من قبل أن ذلك اعتبار يؤدي إلى إسقاط حكم اللفظ؛ ورفعه رأسا؛ وإزالة فائدته؛ وكل قول يؤدي إلى رفع حكم اللفظ فهو ساقط؛ وإنما صار مسقطا لفائدة اللفظ؛ وإزالة حكمه من قبل أن قوله (تعالى): الطلاق مرتان ؛ قد اقتضى تفريق الاثنتين؛ وحظر جمعهما في لفظ واحد؛ على ما قدمنا من بيانه؛ وإباحتك لتفريقهما في طهر واحد يؤدي إلى إباحة جمعهما في كلمة واحدة؛ وفي ذلك رفع حكم اللفظ؛ ومتى حظرنا تفريقهما وجمعهما في طهر واحد؛ وأبحناه في طهرين؛ فليس فيه رفع حكم اللفظ؛ بل فيه استعماله على الخصوص في بعض المواضع؛ دون بعض؛ فلم يؤد قولنا بالتفريق في طهرين إلى رفع حكمه؛ وإنما أوجب تخصيصه؛ إذ كان اللفظ موجبا للتفريق؛ واتفق الجميع على أنه إذا أوجب التفريق فرقهما في طهرين؛ فخصصنا تفريقهما في طهر واحد؛ بدلالة الاتفاق؛ مع استعمال حكم اللفظ؛ ومتى أبحنا التفريق في طهر واحد أدى ذلك إلى رفع حكم اللفظ رأسا؛ حتى يكون ذكره للطلاق مرتين وتركه سواء؛ وهذا قول ساقط مردود.

واحتج من أباح ذلك أيضا بحديث عويمر العجلاني؛ حين لاعن النبي - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين امرأته؛ فلما فرغا من لعانهما قال: كذبت عليها إن أمسكتها؛ هي طالق ثلاثا؛ ففارقها قبل أن يفرق النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهما ؛ قال: فلما لم ينكر الشارع - صلى الله عليه وسلم - إيقاع الثلاث معا ؛ دل على إباحته؛ وهذا الخبر لا يصح للشافعي الاحتجاج به; لأن من مذهبه [ ص: 81 ] أن الفرقة قد كانت وقعت بلعان الزوج قبل لعان المرأة؛ فبانت منه؛ ولم يلحقها طلاق؛ فكيف كان ينكر عليها طلاقا لم يقع؛ ولم يثبت حكمه؟ فإن قيل: فما وجهه على مذهبك؟ قيل له: جائز أن يكون ذلك قبل أن يسن الطلاق للعدة ؛ ومنع الجمع بين التطليقات في طهر واحد؛ فلذلك لم ينكر عليه الشارع - صلى الله عليه وسلم -؛ وجائز أيضا أن تكون الفرقة لما كانت مستحقة من غير جهة الطلاق؛ لم ينكر عليه إيقاعها بالطلاق؛ وأما من قال: سنة الطلاق ألا يطلق إلا واحدة؛ وهو ما حكيناه عن مالك بن أنس ؛ والليث ؛ والحسن بن حي؛ والأوزاعي ؛ فإن الذي يدل على إباحة الثلاث في الأطهار المتفرقة قوله (تعالى): الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ؛ وفي ذلك إباحة لإيقاع الاثنتين؛ ولما اتفقنا على أنه لا يجمعهما في طهر واحد؛ وجب استعمال حكمهما في الطهرين.

وقد روي في قوله (تعالى): أو تسريح بإحسان ؛ أنه للثالثة؛ وفي ذلك تخيير له في إيقاع الثلاث قبل الرجعة؛ ويدل عليه قوله (تعالى): يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن ؛ فقد انتظم إيقاع الثلاث للعدة؛ وذلك لأنه معلوم أن المراد: لأوقات العدة؛ كما بينه الشارع - صلى الله عليه وسلم - في قوله: "يطلقها طاهرا من غير جماع؛ أو حاملا قد استبان حملها؛ فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء"؛وإذا كان المراد به أوقات الأطهار تناول الثلاث؛ كقوله (تعالى): أقم الصلاة لدلوك الشمس ؛ فقد عقل منه تكرار فعل الصلاة لدلوكها في سائر الأيام؛ كذلك قوله: فطلقوهن لعدتهن ؛ لما كان عبارة عن أوقات الأطهار اقتضى تكرار الطلاق في سائر الأوقات؛ وأيضا لما جاز له إيقاع الطلاق في الطهر الأول؛ لأنها طاهر من غير جماع؛ طهرا لم يوقع فيه طلاقا؛ جاز إيقاعه في الطهر الثاني لهذه العلة؛ وأيضا لما اتفقوا على أنه لو راجعها جاز له إيقاع الطلاق في الطهر الثاني؛ وجب أن يجوز ذلك له إذا لم يراجعها؛ لوجود المعنى الذي من أجله جاز إيقاعه في الطهر الأول؛ إذ لا حظ للرجعة في إباحة الطلاق؛ ولا في حظره ؛ ألا ترى أنه لو راجعها؛ ثم جامعها في ذلك الطهر؛ لم يجز له إيقاع الطلاق فيه؛ ولم يكن للرجعة تأثير في إباحته؛ فوجب أن يجوز له أن يطلقها في الطهر الثاني؛ قبل الرجعة؛ كما جاز له ذلك لو لم يراجع؟ فإن قيل: لا فائدة في الثانية؛ والثالثة؛ لأنه إن أراد أن يبينها أمكنه ذلك بالواحدة؛ بأن يدعها حتى تنقضي عدتها؛ وقال (تعالى): ولا تتخذوا آيات الله هزوا ؛ وهذا هو الفارق بينه إذا راجعها؛ أو لم يراجعها؛ في إباحة الثانية؛ والثالثة؛ إذا راجع؛ وحظرهما إذا لم يراجع؛ قيل له: في إيقاع الثانية؛ [ ص: 82 ] والثالثة فوائد بتعجلها؛ لو لم يوقع الثانية والثالثة لم تحصل له؛ وهو أن تبين منه بإيقاع الثالثة قبل انقضاء عدتها؛ فيسقط ميراثها منه لو مات؛ ويتزوج أختها؛ أو أربعا سواها؛ على قول من يجيز ذلك في العدة؛ فلم يخل في إيقاع الثانية؛ والثالثة من فوائد؛ وحقوق تحصل له؛ فلم تكن لغوا مطرحا؛ وجاز من أجلها إيقاع ما بقي من طلاقها في أوقات السنة؛ كما يجوز ذلك لو راجعها؛ وبالله التوفيق.

التالي السابق


الخدمات العلمية