الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        معلومات الكتاب

                        إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول

                        الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

                        صفحة جزء
                        [ ص: 41 ] الفصل الأول في تعريف أصول الفقه وموضوعه وفائدته واستمداده

                        اعلم أن لهذا اللفظ اعتبارين : أحدهما باعتبار الإضافة ، والآخر باعتبار العلمية .

                        أما الاعتبار الأول : فيحتاج إلى تعريف المضاف وهو ( الأصول ) والمضاف إليه وهو ( الفقه ) لأن تعريف المركب يتوقف على تعريف مفرداته ، ضرورة توقف معرفة الكل على معرفة أجزائه ، ويحتاج أيضا إلى تعريف الإضافة ; لأنها بمنزلة الجزء الصوري .

                        أما المضاف : فالأصول جمع أصل ، وهو في اللغة ما ينبني عليه غيره .

                        وفي الاصطلاح : يقال على الراجح ، والمستصحب ، والقاعدة الكلية ، والدليل ، والأوفق بالمقام الرابع .

                        وقد قيل : إن النقل عن المعنى اللغوي هنا خلاف الأصل ولا ضرورة هنا تلجئ إليه ; لأن الانبناء العقلي كانبناء الحكم على دليله يندرج تحت مطلق الانبناء ; لأنه يشمل الانبناء الحسي كانبناء الجدار على أساسه ، والانبناء العقلي كانبناء الحكم على دليله ، ولما كان مضافا إلى الفقه هنا وهو معنى عقلي دل على أن المراد الانبناء العقلي .

                        وأما المضاف إليه وهو الفقه فهو في اللغة : الفهم ، [ ص: 42 ] وفي الاصطلاح : العلم بالأحكام الشرعية عن أدلته التفصيلية بالاستدلال .

                        وقيل : التصديق بأعمال المكلفين التي تقصد لا لاعتقاد .

                        وقيل : معرفة النفس ما لها وما عليها عملا .

                        وقيل : اعتقاد الأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية .

                        وقيل : هو جملة من العلوم ( بأحكام شرعية يستدل على أعيانها لا ) يعلم باضطرار أنها من الدين .

                        وقد اعترض على كل واحد من هذه التعريفات باعتراضات ، والأول أولاها إن حمل العلم فيه على ما يشمل الظن ، لأن غالب علم الفقه ظنون .

                        وأما الإضافة : فمعناها اختصاص المضاف بالمضاف إليه باعتبار مفهوم المضاف إليه ، فأصول الفقه ما يختص بالفقه من حيث كونه مبنيا عليه ومستندا إليه .

                        وأما الاعتبار الثاني : فهو إدراك القواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية ، وقيل : هو العلم بالقواعد . . إلخ .

                        وقيل : هو نفس القواعد الموصلة بذاتها إلى استنباط الأحكام . . إلخ .

                        وقيل : هو طرق الفقه على وجه الإجمال وكيفية الاستدلال بها ، وما يتبع الكيفية . وفيه أن ذكر الأدلة التفصيلية تصريح باللازم المفهوم ضمنا ; لأن المراد استنباط الأحكام تفصيلا ، وهو لا يكون إلا عن أدلتها تفصيلا ، ويزاد عليه ( على وجه التحقيق ) لإخراج علم الخلاف والجدل ، فإنهما وإن اشتملا على القواعد الموصلة إلى مسائل الفقه ، لكن لا على وجه التحقيق بل الغرض منه إلزام الخصم .

                        ولما كان العلم مأخوذا في أصول الفقه عند البعض حسن هاهنا أن نذكر تعريف مطلق العلم .

                        [ ص: 43 ] وقد اختلفت الأنظار في ذلك اختلافا كثيرا ، حتى قال جماعة منهم الرازي : بأن مطلق العلم ضروري ، فيتعذر تعريفه ، واستدلوا بما ليس فيه شيء من الدلالة ، ويكفي في دفع ما قالوه ما هو معلوم بالوجدان لكل عاقل ، أن العلم ينقسم إلى ضروري ومكتسب .

                        وقال قوم منهم الجويني : إنه نظري ، ولكنه يعسر تحديده ، ولا طريق إلى معرفته إلا القسمة والمثال ، فيقال مثلا الاعتقاد إما جازم أو غير جازم ، والجازم إما مطابق أو غير مطابق ، والمطابق إما ثابت أو غير ثابت ، فخرج من هذه القسمة اعتقاد جازم مطابق ثابت وهو العلم .

                        وأجيب عن هذا : بأن القسمة والمثال إن أفادا تمييزا لماهية العلم عما عداها صلحا للتعريف لها فلا يعسر ، وإن لم يفيدا تمييزا لم يصلح بهما معرفة ماهية العلم .

                        وقال الجمهور : إنه نظري لا يعسر تحديده ثم ذكروا له حدودا .

                        فمنهم من قال : هو اعتقاد الشيء على ما هو به عن ضرورة أو دليل ، وفيه أن الاعتقاد المذكور يعم الجازم وغير الجازم ، وعلى تقدير تقييده بالجازم يخرج عنه العلم بالمستحيل فإنه ليس بشيء اتفاقا .

                        ومنهم من قال : هو معرفة المعلوم على ما هو به ، وفيه أنه يخرج عن ذلك علم الله عز وجل إذ لا يسمى معرفة .

                        ومنهم من قال : هو الذي يوجب كون من قام به عالما أو يوجب لمن قام به اسم العالم ، وفيه أنه يستلزم الدور لأخذ العالم في تعريف العلم .

                        ومنهم من قال : هو ما يصح ممن قام به إتقان الفعل ، [ ص: 44 ] وفيه أن في المعلومات ما لا يقدر العالم على إتقانه ، كالمستحيل .

                        ومنهم من قال : هو اعتقاد جازم مطابق ، وفيه أنه يخرج عنه التصورات ، وهي علم .

                        ومنهم من قال : هو حصول صورة الشيء في العقل ، أو الصورة الحاصلة عند العقل ، وفيه أنه يتناول الظن ، والشك ، والوهم ، والجهل المركب .

                        وقد جعل بعضهم هذا حدا للعلم بالمعنى الأعم الشامل للأمور المذكورة ، وفيه أن إطلاق اسم العلم على الشك ، والوهم ، والجهل المركب يخالف مفهوم العلم لغة واصطلاحا .

                        ومنهم من قال : هو حكم لا يحتمل طرفاه - أي المحكوم عليه وبه - نقيضه ، وفيه أنه يخرج عنه التصور ، وهو علم .

                        ومنهم من قال : هو صفة توجب تمييزا لمحلها ، لا يحتمل النقيض بوجه ، وفيه أن العلوم المستندة إلى العادة تحتمل النقيض لإمكان خرق العادة بالقدرة الإلهية .

                        ومنهم من قال : هو صفة يتجلى به المدرك للمدرك ، وفيه أن الإدراك مجاز عن العلم ، فيلزم تعريف الشيء بنفسه مع كون المجاز مهجورا في التعريفات ، ودعوى اشتهاره في المعنى الأعم الذي هو جنس الأخص غير مسلمة .

                        ومنهم من قال : هو صفة يتجلى بها المذكور لمن قامت هي به .

                        قال المحقق الشريف : وهذا أحسن ما قيل في الكشف عن ماهية العلم ; لأن المذكور يتناول الموجود والمعدوم والممكن والمستحيل بلا خلاف ، ويتناول المفرد والمركب والكلي والجزئي .

                        والتجلي : هو الانكشاف التام ، فالمعنى أنه صفة ينكشف بها لمن قامت به ما من شأنه أن يذكر - انكشافا تاما - لا اشتباه فيه ، فيخرج عن الحد الظن ، والجهل المركب ، واعتقاد المقلد المصيب أيضا ; لأنه في [ ص: 45 ] الحقيقة عقدة على القلب ، فليس فيه انكشاف تام وانشراح ينحل به العقدة . انتهى .

                        وفيه : أنه يخرج عنه إدراك الحواس ، فإنه لا مدخلية للمذكور به فيه ، إن أريد به الذكر اللساني ، كما هو الظاهر ، وإن أريد به ما يتناول الذكر بكسر الذال والذكر بضمها ، فإما أن يكون من الجمع بين معنيي المشترك أو من الجمع بين الحقيقة والمجاز ، وكلاهما مهجور في التعريفات .

                        هذا جملة ما قيل في تعريف العلم وقد عرفت ما ورد على كل واحد منها .

                        والأولى عندي أن يقال في تحديده : هو صفة ينكشف بها المطلوب انكشافا تاما وهذا لا يرد عليه شيء مما تقدم فتدبر .

                        وإذا عرفت ما قيل في حد العلم فاعلم أن مطلق التعريف للشيء قد يكون حقيقيا ، وقد يكون اسميا ، فالحقيقي : تعريف الماهيات الحقيقية ، والاسمي : تعريف الماهيات الاعتبارية .

                        وبيانه أن ما يتعقله الواضع ليضع بإزائه اسما إما أن يكون له ماهية حقيقية أو لا ، وعلى الأول إما أن يكون متعقله نفس حقيقة ذلك الشيء ، أو وجوها واعتبارات منه ، فتعريف الماهية الحقيقية بمسمى الاسم من حيث إنها ماهية حقيقية تعريف حقيقي يفيد تصور الماهية في الذهن بالذاتيات كلها أو بعضها أو بالعرضيات أو بالمركب منهما ، وتعريف مفهوم الاسم وما تعقله الواضع فوضع الاسم بإزائه تعريف اسمي يفيد تبيين ما وضع الاسم بإزائه بلفظ أشهر .

                        فتعريف المعدومات لا يكون إلا اسميا إذ لا حقائق لها ، بل لها مفهومات فقط ، وتعريف الموجودات قد يكون اسميا ، وقد لا يكون حقيقيا إذ لها مفهومات وحقائق ، والشرط في كل واحد منهما الاطراد والانعكاس ، فالاطراد : هو أنه كلما وجد الحد وجد المحدود فلا يدخل فيه شيء ليس من أفراد المحدود فهو بمعنى طرد الأغيار فيكون مانعا ، والانعكاس هو أنه كلما وجد المحدود وجد الحد فلا يخرج عنه شيء [ ص: 46 ] من أفراده ، فهو بمعنى جمع الأفراد فيكون جامعا . ثم العلم ينقسم بالضرورة إلى ضروري ونظري ، فالضروري : ما لا يحتاج في تحصيله إلى نظر .

                        والنظري : ما يحتاج إليه .

                        والنظر : هو الفكر المطلوب به علم أو ظن .

                        وقيل : هو ملاحظة المعقول لتحصيل المجهول .

                        وقيل : هو حركة النفس من المطالب التصورية ، أو التصديقية ، طالبة للمبادئ وهي المعلومات التصورية ، أو التصديقية ، باستعراض صورها ، صورة صورة .

                        وكل واحد من الضروري والنظري ينقسم إلى قسمين : تصور وتصديق ، والكلام فيهما مبسوط في علم المنطق .

                        والدليل ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري .

                        وقيل : ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى العلم بالغير .

                        وقيل : ما يلزم من العلم به العلم بشيء آخر .

                        وقيل : هو ترتيب أمور معلومة للتأدي إلى مجهول .

                        والأمارة : هي التي يمكن أن يتوصل بصحيح النظر فيها إلى الظن .

                        والظن : تجويز راجح .

                        والوهم : تجويز مرجوح .

                        والشك : تردد الذهن بين الطرفين .

                        فالظن فيه حكم لحصول الراجحية ، ولا يقدح فيه احتماله للنقيض المرجوح ، والوهم لا حكم فيه لاستحالة الحكم بالنقيضين ; لأن النقيض الذي هو متعلق الظن قد حكم به ، فلو حكم بنقيضه المرجوح - وهو متعلق الوهم - لزم الحكم بهما جميعا .

                        والشك لا حكم فيه بواحد من الطرفين لتساوي الوقوع واللاوقوع في نظر العقل ، [ ص: 47 ] فلو حكم بواحد منهما لزم الترجيح بلا مرجح ، ولو حكم بهما جميعا لزم الحكم بالنقيضين .

                        والاعتقاد في الاصطلاح : هو المعنى الموجب لمن اختص به كونه جازما بصورة مجردة ، أو بثبوت أمر أو نفيه ، وقيل هو الجزم بالشيء من دون سكون نفس ، ويقال على التصديق سواء كان جازما أو غير جازم ، مطابقا أو غير مطابق ، ثابتا أو غير ثابت ، فيندرج تحته الجهل المركب ; لأنه حكم غير مطابق ، والتقليد لأنه جزم بثبوت أمر أو نفيه لمجرد قول الغير .

                        وأما الجهل البسيط : فهو مقابل للعلم والاعتقاد مقابلة العدم للملكة ; لأنه عدم العلم والاعتقاد عما من شأنه أن يكون عالما أو معتقدا .

                        موضوع أصول الفقه .

                        وأما موضوع علم أصول الفقه : فاعلم أن موضوع العلم ما يبحث فيه من أعراضه الذاتية ، والمراد بالعرض هنا المحمول على الشيء الخارج عنه ، وإنما يقال له العرض الذاتي ; لأنه يلحق الشيء لذاته كالإدراك للإنسان ، أو بواسطة أمر يساويه كالضحك للإنسان بواسطة تعجبه أو بواسطة أمر أعم منه داخل فيه كالتحرك للإنسان بواسطة كونه حيوانا .

                        والمراد بالبحث عن الأعراض الذاتية حملها على موضع العلم كقولنا : الكتاب يثبت به الحكم ، أو على أنواعه كقولنا : الأمر يفيد الوجوب ، أو على أعراضه الذاتية كقولنا : النص يدل على مدلوله دلالة قطعية ، أو على أنواع أعراضه الذاتية كقولنا : العام الذي خص منه البعض يدل على بقية أفراده دلالة ظنية .

                        وجميع مباحث أصول الفقه راجعة إلى إثبات أعراض ذاتية للأدلة والأحكام من حيث إثبات الأدلة للأحكام ، وثبوت الأحكام بالأدلة . بمعنى أن جميع مسائل هذا الفن هو الإثبات والثبوت .

                        وقيل : موضوع علم أصول الفقه هو الدليل السمعي الكلي فقط ، من حيث إنه [ ص: 48 ] يوصل العلم بأحواله إلى قدرة إثبات الأحكام لأفعال المكلفين ، أخذا من شخصياته .

                        والمراد بالأحوال : ما يرجع إلى الإثبات وهو ذاتي للدليل . والأول أولى .

                        وأما فائدة هذا العلم : فهي العلم بأحكام الله سبحانه أو الظن بها . ولما كانت هذه الغاية بهذه المنزلة من الشرف كان علم طالبه بها ووقوفه عليها مقتضيا لمزيد عنايته به وتوفر رغبته فيه ; لأنها سبب الفوز بسعادة الدارين .

                        وأما استمداده فمن ثلاثة أشياء :

                        الأول : علم الكلام ; لتوقف الأدلة الشرعية على معرفة البارئ سبحانه ، وصدق المبلغ ، وهما مبنيان فيه مقررة أدلتهما في مباحثه .

                        الثاني : اللغة العربية ; لأن فهم الكتاب والسنة ، والاستدلال بهما متوقفان عليها إذ هما عربيان .

                        الثالث : الأحكام الشرعية من حيث تصورها ; لأن المقصود إثباتها أو نفيها ، كقولنا : الأمر للوجوب ، والنهي للتحريم ، والصلاة واجبة ، والربا حرام ، ووجه ذكرنا لما اشتمل عليه هذا الفصل أن يوجب زيادة بصيرة لطالب هذا العلم كما لا يخفى على ذي فهم .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية