الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
باب من خبر مبعثه صلى الله عليه وسلم

أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن، قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن بكر بن محمد بن عبد الرزاق التمار: قال: حدثنا أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني، قال: حدثنا محمود بن خالد الدمشقي، قال: حدثنا عمر بن عبد الواحد، عن الأوزاعي، قال: حدثنا يحيى بن أبي كثير، قال:

سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن: أي القرآن أنزل أول؟ فقال: سألت جابر بن عبد الله; أي القرآن أنزل قبل: ( يا أيها المدثر ) أو ( اقرأ باسم ربك الذي خلق ) ؟ فقال جابر: ألا أحدثكم بما حدثني به رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني جاورت بحراء شهرا فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت بطن الوادي، فنوديت، فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني وشمالي فلم أر شيئا، ثم نظرت إلى السماء، فإذا هو [ ص: 29 ] على العرش في الهواء، فأخذتني رجفة، فأتيت خديجة ، فأمرتهم فدثروني، ثم صبوا علي الماء، فأنزل الله عز وجل: ( يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر ) .

حدثنا عبد الله بن محمد، قال: حدثنا محمد بن بكر، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا إبراهيم بن سعد، قال: حدثنا محمد بن عبد الله قال: حدثني إسرائيل عن سماك بن حرب عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: أتى نفر من قريش امرأة كاهنة، فقالوا: أخبرينا بأقربنا شبها بصاحب هذا المقام، قالت: إن جررتم على السهلة عباءة ومشيتم عليها أنبأتكم بأقربكم منه شبها، فجروا عليها عباءة، ثم مشوا عليها، فرأت أثر قدم محمد صلى الله عليه وسلم، فقالت: هذا والله أقربكم شبها، قال ابن عباس رضي الله عنهما: فمكثوا بعد ذلك عشرين سنة، ثم بعث محمد صلى الله عليه وسلم.

حدثنا عبد الله بن محمد، قال: حدثنا محمد بن بكر، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا أبو داود الطيالسي، قال: حدثنا سليمان بن معاذ الضبي، عن سماك بن حرب، عن جابر بن سمرة، قال: [ ص: 30 ] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بمكة لحجرا يسلم علي ليالي بعثت، إني لأعرفه الآن، وسنفرد لأعلام نبوته كتابا إن شاء الله.

حدثنا عبد الله بن محمد، قال: حدثنا محمد بن بكر بن داسة، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا إبراهيم بن الحسن الخثعمي، قال: حدثنا حجاج، قال: [ قال ] حدثنا ابن جريج : أخبرني عمرو بن دينار أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: لما بنيت الكعبة ذهب عباس والنبي صلى الله عليه وسلم ينقلان الحجارة، فقال عباس للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل إزارك على رقبتك [ يقيك ] من الحجارة، ففعل، فخر إلى الأرض وطمحت عيناه إلى السماء، ثم قام وقال: إزاري إزاري، فشده عليه.

وفي حديث عكرمة عن ابن عباس في هذا الخبر، قال:

خر محمد ، فانبطح. قال العباس: فجئت أسعى إليه، وألقيت عني حجري. قال: وهو ينظر إلى السماء، قلت: ما شأنك؟ قال: فقام وأخذ إزاره، وقال: نهيت أن أمشي عريانا. قال ابن عباس : قال أبي: فإني أكتمها الناس مخافة أن يقولوا مجنون.

وحدثنا عبد الله، قال: حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود، قال: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: حدثنا جرير، عن الأعمش، عن منذر الثوري، عن الربيع بن خثيم في قوله عز وجل: ( إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده ) قال: [ ص: 31 ] أوحى [ الله ] إليه كما أوحى إلى جميع النبيين.

وفي حديث عائشة رضي الله عنها من رواية مالك، رحمه الله، وغيره:

أن الوحي كان يأتيه أحيانا مثل صلصلة الجرس، وأحيانا يكلمه الملك، وأحيانا يشتد عليه، فيتفصد جبينه في اليوم البارد عرقا.

وقال عروة بن الزبير:

كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته وضعت جرانها.

وفي حديث عمر رضي الله عنه، قال:

كان ينزل عليه الوحي، فيسمع له دوي كدوي النحل.

وقد أشبعنا هذا المعنى في كتاب "التمهيد" عند ذكر حديث عائشة رضي الله عنها المذكور. والحمد لله.

حدثنا عبد الله، قال: حدثنا محمد، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا محمد بن داود بن سفيان، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر عن الزهري، قال: أخبرني عروة بن الزبير، عن عائشة ، رضي الله عنها، قالت: أول ما بديء به رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من الوحي الرؤيا الصادقة، ثم حبب إليه الخلاء، فكان يأتي حراء، فيتحنث فيه - وهو التعبد - الليالي ذوات العدد، ويتزود لذلك. ثم يرجع إلى خديجة ، فتزوده [ ص: 32 ] لمثلها، حتى فجأه الحق، وهو في غار حراء. فجاء الملك، فقال: اقرأ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقلت: ما أنا بقارئ. فأخذني، فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقاريء، فأخذني، فغطني الثانية، حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقاريء، فأخذني، فغطني الثالثة، حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: ( اقرأ باسم ربك الذي خلق ) حتى بلغ ( علم الإنسان ما لم يعلم ) . قال: فرجع بها ترجف بوادره ، حتى دخل على خديجة ، فقال: زملوني، فزملوه، حتى ذهب [ عنه ] الروع. فقال يا خديجة : ما لي؟ وأخبرها الخبر. وقال: قد خشيت على نفسي، فقالت له: كلا، أبشر، فوالله لا يخزيك الله [ أبدا ] إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل [ وتكسب المعدوم، وتقري الضيف ] ، وتعين على نوائب الحق. ثم انطلقت به خديجة، حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي، وهو ابن عم خديجة أخي أبيها، وكان امرءا تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العربي، فكتب بالعربية من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا [ كبيرا ] قد عمي. فقالت له خديجة : أي ابن عمي اسمع من ابن أخيك. فقال ورقة بن نوفل: يا بن أخي ما ترى؟ فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بما رأى. فقال [ له ] ورقة: هذا الناموس [ ص: 33 ] الذي أنزل على موسى، يا ليتني أكون فيها حيا حين يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو مخرجي هم؟ فقال ورقة بن نوفل: نعم إنه لم يأت أحد بما جئت به إلا عودي وأوذي وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا. ثم لم يلبث ورقة أن توفي.

وفتر الوحي فترة، حتى حزن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فيما بلغنا حزنا شديدا، غدا منه مرارا كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة كي يلقي بنفسه منها تبدى له جبريل عليه السلام، فقال: يا محمد إنك رسول الله حقا، فيسكن لذلك جأشه، وتقر نفسه، فيرجع، فإذا [ طالت ] عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى ذروة تبدى له جبريل عليه السلام، فقال مثل ذلك.


حدثنا عبد الله بن محمد، قال: حدثنا محمد بن بكر، قال: حدثنا [ أبو ] داود، قال: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. قال أبو داود: وحدثنا مسدد بن مسرهد، قال: حدثنا أبو عوانة، عن أبي بشير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. قال أبو داود: وحدثنا نصر بن علي، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيل، عن ابن إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، دخل حديث بعضهم في بعض. قال: [ ص: 34 ] كان لكل قبيل من الجن مقعد من السماء يستمعون فيه، فلما رموا بالشهب، وحيل بينهم وبين خبر السماء قالوا: ما هذا إلا لشيء حدث في الأرض، وشكوا ذلك إلى إبليس، فقال: ما هذا إلا لشيء حدث في الأرض، فائتوني من تربة كل أرض، فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها، يبتغون علم ذلك. فأتوه من تربة كل أرض، فكان يشمها ويرمي بها، حتى أتاه الذين توجهوا إلى تهامة بتربة من تربة مكة ، فشمها، فقال: من ها هنا يحدث الحدث. فنظر، فإذا النبي صلى الله عليه وسلم قد بعث، فانطلقوا فوجدوا رسول الله وطائفة معه من أصحابه بنخلة عامدين إلى سوق عكاظ، وهو يصلي بهم صلاة الفجر. فلما سمعوا القرآن استمعوا له، فقالوا: هذا والله الذي حال بيننا وبين خبر السماء، فولوا إلى قومهم منذرين، فقالوا: يا قومنا ( إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد ) . وذكر تمام الخبر.

قال أبو داود: وحدثنا وهب بن بقية، عن خالد. قال أبو داود: وحدثنا محمد بن العلاء، عن ابن إدريس، كلاهما عن حصين، عن عامر الشعبي، قال:

لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم رجمت الشياطين بنجوم لم تكن ترجم بها من قبل، فأتوا عبد يا ليل ابن عمرو الثقفي فقالوا: إن الناس قد فزعوا وأعتقوا رقيقهم وسيبوا أنعامهم لما رأوا في النجوم، فقال لهم: وكان رجلا أعمى: لا تعجلوا وانظروا، فإن كانت النجوم التي تعرف فهو عند فناء الناس، وإن كانت لا تعرف فهو من حدث، فنظروا ، [ ص: 35 ] فإذا هي نجوم لا تعرف. فقالوا: هذا أمر حدث، فلم يلبثوا حتى سمعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم.

التالي السابق


الخدمات العلمية