الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 128 ]

                          مواضع التقديم والتأخير - الخبر

                          فصل

                          التقديم والتأخير في الخبر المثبت وهو قسمان

                          121- واعلم أن الذي بان لك في الاستفهام والنفي من المعنى في التقديم، قائم مثله في الخبر المثبت .

                          فإذا عمدت إلى الذي أردت أن تحدث عنه بفعل فقدمت ذكره، ثم بنيت الفعل عليه فقلت : " زيد قد فعل " و " أنا فعلت " و " أنت فعلت " اقتضى ذلك أن يكون القصد إلى الفاعل ، إلا أن المعنى في هذا القصد ينقسم قسمين :

                          القسم الجلي

                          أحدهما جلي لا يشكل وهو أن يكون الفعل فعلا قد أردت أن تنص فيه على واحد فتجعله له وتزعم أنه فاعله دون واحد آخر، أو دون كل أحد . ومثال ذلك أن تقول : " أنا كتبت في معنى فلان وأنا شفعت في بابه " تريد أن تدعي الانفراد بذلك والاستبداد به، وتزيل الاشتباه فيه، وترد على من زعم أن ذلك كان من غيرك أو أن غيرك قد كتب فيه كما كتبت . ومن البين في ذلك قولهم في المثل : " أتعلمني بضب أنا حرشته " .

                          القسم الثاني وتفسيره

                          والقسم الثاني: أن لا يكون القصد إلى الفاعل على هذا المعنى، ولكن على أنك أردت أن تحقق على السامع أنه قد فعل وتمنعه من الشك فأنت [ ص: 129 ] لذلك تبدأ بذكره وتوقعه أولا- ومن قبل أن تذكر الفعل- في نفسه لكي تباعده بذلك من الشبهة، وتمنعه من الإنكار، أو من أن يظن بك الغلط أو التزيد، ومثاله قولك : " هو يعطي الجزيل " و " هو يحب الثناء " لا تريد أن تزعم أنه ليس هنا من يعطي الجزيل ويحب الثناء غيره، ولا أن تعرض بإنسان وتحطه عنه، وتجعله لا يعطي كما يعطي، ولا يرغب كما يرغب ، ولكنك تريد أن تحقق على السامع أن إعطاء الجزيل وحب الثناء دأبه . وأن تمكن ذلك في نفسه .

                          122- ومثاله في الشعر :


                          هم يفرشون اللبد كل طمرة وأجرد سباح يبذ المغالبا



                          لم يرد أن يدعي لهم هذه الصفة دعوى من يفردهم بها، وينص عليهم فيها حتى كأنه يعرض بقوم آخرين، فينفي أن يكونوا أصحابها. هذا محال ! وإنما أراد أن يصفهم بأنهم فرسان يمتهدون صهوات الخيل، وأنهم يقتعدون الجياد منها، وأن ذلك دأبهم من غير أن يعرض لنفيه عن غيرهم، إلا أنه بدأ بذكرهم لينبه السامع لهم ويعلم بديا قصده إليهم بما في نفسه من الصفة، [ ص: 130 ] ليمنعه بذلك من الشك ومن توهم أن يكون قد وصفهم بصفة ليست هي لهم، أو أن يكون قد أراد غيرهم فغلط إليه.

                          وعلى ذلك قول الآخر :


                          هم يضربون الكبش يبرق بيضه     على وجهه من الدماء سبائب



                          لم يرد أن يدعي لهم الانفراد، ويجعل هذا الضرب لا يكون إلا منهم ، ولكن أراد الذي ذكرت لك من تنبيه السامع لقصدهم بالحديث من قبل ذكر الحديث ليحقق الأمر ويؤكده .

                          124- ومن البين فيه قول عروة بن أذينة :


                          سليمى أزمعت بينا     فأين تقولها أينا



                          وذلك أنه ظاهر معلوم أنه لم يرد أن يجعل هذا الإزماع لها خاصة، ويجعلها من جماعة لم يزمع البين منهم أحد سواها ، هذا محال ولكنه أراد أن [ ص: 131 ] يحقق الأمر ويؤكده ، فأوقع ذكرها في سمع الذي كلم ابتداء ومن أول الأمر. ليعلم قبل هذا الحديث أنه أرادها بالحديث، فيكون ذلك أبعد له من الشك .

                          125- ومثله في الوضوح قوله :


                          هما يلبسان المجد أحسن لبسة     شحيحان ما اسطاعا عليه كلاهما



                          لا شبهة في أنه لم يرد أن يقصر هذه الصفة عليهما، ولكن نبه لهما قبل الحديث عنهما .

                          126- وأبين من الجميع قوله تعالى : « واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون » [ سورة الفرقان :3 ] وقوله عز وجل : « وإذا جاءوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به » [ سورة المائدة : 61 ].

                          تقديم المحدث عنه يفيد التنبيه والتحقيق

                          127- وهذا الذي قد ذكرت من أن تقديم ذكر المحدث عنه يفيد التنبيه له، قد ذكره صاحب الكتاب في المفعول إذا قدم فرفع بالابتداء، وبني الفعل الناصب كان له عليه، وعدي إلى ضميره فشغل به كقولنا في " ضربت عبد الله " : " عبد الله ضربته " فقال : و " إنما " قلت: " عبد الله " فنبهته له، ثم بنيت عليه الفعل ورفعته بالابتداء .

                          [ ص: 132 ]

                          128- فإن قلت : فمن أين وجب أن يكون تقديم ذكر المحدث عنه بالفعل آكد لإثبات ذلك الفعل له، وأن يكون قوله : " هما يلبسان المجد " أبلغ في جعلهما يلبسانه من أن يقال : " يلبسان المجد " ؟

                          فإن ذلك من أجل أنه لا يؤتى بالاسم معرى من العوامل إلا لحديث قد نوي إسناده إليه . وإذا كان كذلك فإذا قلت : " عبد الله " فقد أشعرت قلبه بذلك أنك قد أردت الحديث عنه، فإذا جئت بالحديث فقلت مثلا : " قام " أو قلت : " خرج " أو قلت : " قدم " فقد علم ما جئت به وقد وطأت له وقدمت الإعلام فيه، فدخل على القلب دخول المأنوس به، وقبله قبول المتهيأ له المطمئن إليه، وذلك - لا محالة - أشد لثبوته وأنفى للشبهة، وأمنع للشك وأدخل في التحقيق.

                          129- وجملة الأمر أنه ليس إعلامك الشيء بغتة مثل إعلامك له بعد التنبيه عليه والتقدمة له، لأن ذلك يجري مجرى تكرير الإعلام في التأكيد والإحكام، ومن هاهنا قالوا : إن الشيء إذا أضمر ثم فسر، كان ذلك أفخم له من أن يذكر من غير تقدمة إضمار .

                          ويدل على صحة ما قالوه أنا نعلم ضرورة في قوله تعالى : « فإنها لا تعمى الأبصار » [ سورة الحج : 46 ] فخامة وشرفا وروعة، لا نجد منها شيئا في قولنا : فإن [ ص: 133 ] الأبصار لا تعمى . وكذلك السبيل أبدا في كل كلام كان فيه ضمير قصة . فقوله تعالى : « إنه لا يفلح الكافرون » [ سورة المؤمنون : 117 ] يفيد من القوة في نفي الفلاح عن الكافرين ما لو قيل : " إن الكافرين لا يفلحون " لم يستفد ذلك، ولم يكن ذلك كذلك إلا لأنك تعلمه إياه من بعد تقدمة وتنبيه، أنت به في حكم من بدأ وأعاد ووطد، ثم بنى ولوح ثم صرح . ولا يخفى مكان المزية فيما طريقه هذا الطريق .

                          تقديم المحدث عنه يقتضي تأكيد الخبر

                          130- ويشهد لما قلنا من أن تقديم المحدث عنه يقتضي تأكيد الخبر وتحقيقه له، أنا إذا تأملنا وجدنا هذا الضرب من الكلام يجيء فيما سبق فيه إنكار من منكر، نحو أن يقول الرجل : ليس لي علم بالذي تقول، فتقول له : أنت تعلم أن الأمر على ما أقول ولكنك تميل إلى خصمي . وكقول الناس : هو يعلم ذاك، وإن أنكر وهو يعلم الكذب فيما قال وإن حلف عليه - وكقوله تعالى : « ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون » [ سورة آل عمران : 75، 78 ] فهذا من أبين شيء . وذاك أن الكاذب لا سيما في الدين لا يعترف بأنه كاذب، وإذا لم يعترف بأنه كاذب كان أبعد من ذلك أن يعترف بالعلم بأنه كاذب.

                          أو يجيء فيما اعترض فيه شك، نحو أن يقول الرجل : كأنك لا تعلم ما صنع فلان ولم يبلغك فيقول : أنا أعلم ولكني أداريه [ ص: 134 ] أو في تكذيب مدع كقوله عز وجل : « وإذا جاءوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به » [ سورة المائدة :61 ] . وذلك أن قولهم : " آمنا " دعوى منهم أنهم لم يخرجوا بالكفر كما دخلوا به، فالموضع موضع تكذيب .

                          أو فيما القياس في مثله أن لا يكون، كقوله تعالى : « واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون » [ سورة الفرقان : 3 ] وذلك أن عبادتهم لها تقتضي أن لا تكون مخلوقة .

                          وكذلك في كل شيء كان خبرا على خلاف العادة وعما يستغرب من الأمر نحو أن تقول : ألا تعجب من فلان؟ يدعي العظيم وهو يعيى باليسير، ويزعم أنه شجاع وهو يفزع من أدنى شيء .

                          وجوه تقديم المحدث عنه ومعانيها

                          131- ومما يحسن ذلك فيه ويكثر، الوعد والضمان كقول الرجل : " أنا أعطيك أنا أكفيك أنا أقوم بهذا الأمر " . وذلك أن من شأن من تعده وتضمن له أن يعترضه الشك في تمام الوعد وفي الوفاء به، فهو من أحوج شيء إلى التأكيد.

                          وكذلك يكثر في المدح كقولك : " أنت تعطي الجزيل أنت تقري في المحل أنت تجود حين لا يجود أحد " . وكما قال :


                          ولأنت تفري ما خلقت وبعض     القوم يخلق ثم لا يفري



                          [ ص: 135 ]

                          وكقول الآخر :


                          نحن في المشتاة ندعو الجفلى



                          وذلك أن من شأن المادح أن يمنع السامعين من الشك فيما يمدح به ويباعدهم من الشبهة وكذلك المفتخر .

                          تقديم المحدث عنه بعد واو الحال

                          132- ويزيدك بيانا أنه إذا كان الفعل مما لا يشك فيه ولا ينكر بحال لم يكد يجيء على هذا الوجه ولكن يؤتى به غير مبني على اسم .

                          فإذا أخبرت بالخروج مثلا عن رجل من عادته أن يخرج في كل غداة، قلت : " قد خرج " . ولم تحتج إلى أن تقول : " هو قد خرج " ذاك لأنه ليس بشيء يشك فيه السامع فتحتاج أن تحققه وإلى أن تقدم فيه ذكر المحدث عنه .

                          وكذلك إذا علم السامع من حال رجل أنه على نية الركوب والمضي إلى موضع ولم يكن شك وتردد أنه يركب أو لا يركب كان خبرك فيه أن تقول : قد ركب ولا تقول : هو قد ركب ، فإن جئت بمثل هذا في صلة كلام ووضعته بعد واو الحال حسن حينئذ . وذلك قولك : جئته وهو قد ركب . وذاك أن الحكم يتغير إذا صارت الجملة في مثل هذا الموضع ويصير الأمر بمعرض [ ص: 136 ] الشك . وذاك أنه إنما يقول هذا من ظن أنه يصادفه في منزله، وأنه يصل إليه من قبل أن يركب .

                          فإن قلت: فإنك قد تقول : " جئته وقد ركب " بهذا المعنى ومع هذا الشك . فإن الشك لا يقوى حينئذ قوته في الوجه الأول ، أفلا ترى أنك إذا استبطأت إنسانا فقلت : " أتانا والشمس قد طلعت " كان ذلك أبلغ في استبطائك له من أن تقول : " أتانا وقد طلعت الشمس " ؟ وعكس هذا أنك إذا قلت : " أتى والشمس لم تطلع " كان أقوى في وصفك له بالعجلة والمجيء قبل الوقت الذي ظن أنه يجيء فيه، من أن تقول : " أتى ولم تطلع الشمس بعد " .

                          هذا، وهو كلام لا يكاد يجيء إلا نابيا، وإنما الكلام البليغ هو أن تبدأ بالاسم وتبني الفعل عليه كقوله :


                          قد أغتدي والطير لم تكلم



                          فإذا كان الفعل فيما بعد هذه الواو التي يراد بها الحال مضارعا لم يصلح إلا مبنيا على اسم كقولك : " رأيته وهو يكتب " و " دخلت عليه وهو يملي الحديث " . وكقوله :

                          [ ص: 137 ]


                          تمززتها والديك يدعو صباحه     إذا ما بنو نعش دنوا فتصوبوا



                          ليس يصلح شيء من ذلك إلا على ما تراه، لو قلت : " رأيته ويكتب " و " دخلت عليه ويملي الحديث " و " تمززتها ويدعو الديك صباحه " لم يكن شيئا.

                          133- ومما هو بهذه المنزلة في أنك تجد المعنى لا يستقيم إلا على ما جاء عليه من بناء الفعل على الاسم قوله تعالى : « إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين » [ سورة الأعراف : 196 ] وقوله تعالى: « وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا » [ سورة الفرقان : 5 ] وقوله تعالى : « وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون » [ سورة النمل :17 ] فإنه لا يخفى على من له ذوق أنه لو جيء في ذلك بالفعل غير مبني على الاسم فقيل : إن وليي الله الذي نزل الكتاب ويتولى الصالحين. و " اكتتبها فتملى عليه " و " حشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فيوزعون " لوجد اللفظ قد نبا عن المعنى، والمعنى قد زال عن صورته والحال التي ينبغي أن يكون عليها .

                          [ ص: 138 ]

                          134- واعلم أن هذا الصنيع يقتضي في الفعل المنفي ما اقتضاه في المثبت، فإذا قلت : " أنت لا تحسن هذا " كان أشد لنفي إحسان ذلك عنه من أن تقول : " لا تحسن هذا " . ويكون الكلام في الأول مع من هو أشد إعجابا بنفسه، وأعرض دعوى في أنه يحسن، حتى إنك لو أتيت بـ " أنت " فيما بعد " تحسن " فقلت : " لا تحسن أنت " لم يكن له تلك القوة .

                          وكذلك قوله تعالى : « والذين هم بربهم لا يشركون » [ سورة المؤمنون : 59 ] يفيد من التأكيد في نفي الإشراك عنهم، ما لو قيل : " والذين لا يشركون بربهم أو بربهم لا يشركون " لم يفد ذلك، وكذا قوله تعالى : « لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون » [ سورة يس : 7 ] وقوله تعالى : « فعميت عليهم الأنباء يومئذ فهم لا يتساءلون » [ سورة القصص : 66 ] و « إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون » [ سورة الأنفال : 55 ].

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية