الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        ولا يكون القياس صحيحا إلا بشروط اثني عشر ، لا بد من اعتبارها في الأصل .

                        ( الأول ) : أن يكون الحكم الذي أريد تعديته إلى الفرع ثابتا في الأصل ، فإنه لو لم يكن ثابتا فيه بأن لم يشرع فيه حكم ابتداء ، أو شرع ونسخ ، لم يمكن بناء الفرع عليه .

                        ( الثاني ) : أن يكون الحكم الثابت في الأصل شرعيا ، فلو كان عقليا أو لغويا ، لم يصح القياس عليه; لأن بحثنا إنما هو في القياس الشرعي .

                        واختلفوا هل يثبت القياس على النفي الأصلي ، وهو ما كان قبل الشرع ؟

                        فمن قال : إن نفي الحكم الشرعي حكم شرعي ، جوز القياس عليه ، ومن قال : إنه [ ص: 601 ] ليس بحكم شرعي لم يجوز القياس عليه .

                        ( الثالث ) : أن يكون الطريق إلى معرفته سمعية; لأن ما لم تكن طريقه سمعية لا يكون حكما شرعيا ، وهذا عند من ينفي التحسين والتقبيح العقليين ، لا عند من يثبتهما .

                        ( الرابع ) : أن يكون الحكم ثابتا بالنص ، وهو الكتاب أو السنة ، وهل يجوز القياس على الحكم الثابت بمفهوم الموافقة أو المخالفة ، قال الزركشي : لم يتعرضوا له ، ويتجه أن يقال : إن قلنا إن حكمهما حكم النطق فواضح ، وإن قلنا : كالقياس فيلحق به انتهى .

                        والظاهر : أنه يجوز القياس عليهما عند من أثبتهما; لأنه يثبت بهما الأحكام الشرعية ، كما يثبتهما بالمنطوق .

                        وأما ما ثبت بالإجماع ، ففيه وجهان ، وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي وابن السمعاني : أصحهما الجواز ، وحكاه ابن برهان عن جمهور أصحاب الشافعي .

                        ( والثاني ) : عدم الجواز ، ما لم يعرف النص الذي أجمعوا لأجله ، قال ابن السمعاني : وهذا ليس بصحيح; لأن الإجماع أصل في إثبات الأحكام ، كالنص ، فإذا جاز القياس على الثابت بالنص ، جاز على الثابت بالإجماع .

                        ( الخامس ) : أن لا يكون أصل المقيس عليه فرعا لأصل آخر ، وإليه ذهب الجمهور . وخالف في ذلك بعض الحنابلة ، والمعتزلة فأجازوه .

                        واحتج الجمهور على المنع ، بأن العلة الجامعة بين القياسين إن اتحدت ، كان ذكر الأصل الثاني تطويلا بلا فائدة ، فيستغنى عنه بقياس الفرع الثاني على الأصل الأول ، وإن اختلفت لم ينعقد القياس الثاني ، بعدم اشتراك الأصل والفرع في علة الحكم .

                        وقسم الشيخ أبو إسحاق الشيرازي هذه المسألة إلى قسمين :

                        ( أحدهما ) : أن يستنبط من الثابت بالقياس نفس المعنى ، الذي ثبت به ، ويقاس عليه غيره ، قال : وهذا لا خلاف في جوازه .

                        [ ص: 602 ] ( والثاني ) : أن يستنبط منه معنى غير المعنى الذي قيس به على غيره ، ويقاس غيره عليه ، قال : وهذا فيه وجهان :

                        ( أحدهما ) : وبه قال أبو عبد الله البصري : الجواز .

                        ( والثاني ) : وبه قال الكرخي : المنع ، وهو الذي يصح عندي الآن; لأنه يؤدي إلى إثبات حكم في الفرع بغير علة الأصل ، وذلك لا يجوز ، وكذا صححه في القواطع ولم يذكر الغزالي غيره .

                        ( السادس ) : أن لا يكون دليل حكم الأصل شاملا لحكم الفرع ، أما لو كان شاملا له ، خرج عن كونه فرعا ، وكان القياس ضائعا; لخلوه عن الفائدة بالاستغناء عنه بدليل الأصل; ولأنه لا يكون جعل أحدهما أصلا والآخر فرعا أولى من العكس .

                        ( السابع ) : أن يكون الحكم في الأصل متفقا عليه; لأنه لو كان مختلفا فيه احتيج إلى إثباته أولا ، وجوز جماعة القياس على الأصل المختلف فيه; لأن القياس في نفسه لا يشترط الاتفاق عليه ، في جواز التمسك به ، فسقوط ذلك في ركن من أركانه أولى .

                        واختلفوا في كيفية الاتفاق على الأصل ، فشرط بعضهم أن يتفق عليه الخصمان فقط ، لينضبط فائدة المناظرة .

                        وشرط آخرون أن يتفق عليه الأمة . قال الزركشي : والصحيح الأول ، واختار في المنتهى أن المعترض إن كان مقلدا لم يشترط الإجماع ، إذ ليس له منع ما ثبت مذهبا له ، وإن كان مجتهدا اشترط الإجماع; لأنه ليس مقتديا بإمام ، فإذا لم يكن الحكم مجمعا عليه ، ولا منصوصا عليه جاز أن يمنعه .

                        ( الثامن ) : أن لا يكون حكم الأصل ذا قياس مركب ، وذلك إذا اتفقا على إثبات الحكم في الأصل ، ولكنه معلل عند أحدهما بعلة ( وعند الآخر بعلة أخرى ) يصلح كل منهما أن يكون علة ، وهذا يقال له : مركب الأصل ، ( وإن اتفقا على علة الأصل ) لاختلافهم في نفس الوصف ، ولكن منع أحدهما وجودها في الفرع ، وهذا يقال له مركب الوصف; لاختلافهم في نفس الوصف ، هل له وجود في الأصل أم لا ؟

                        [ ص: 603 ] وكلام الصفي الهندي يقتضي تخصيص القياس المركب بالأول ، وخالفه الآمدي ، وابن الحاجب وغيرهما ، فجعلوه متناولا للقسمين ، وقد اختلف في اعتبار هذا الشرط ، والجمهور على اعتبار ، وخالفهم جماعة ، فلم يعتبروه ، وقد طول الأصوليون ، والجدليون الكلام على هذا الشرط بما لا طائل تحته .

                        ( التاسع ) : أن لا نكون متعبدين في ذلك الحكم بالقطع ، فان تعبدنا فيه بالقطع ، لم يجز فيه القياس; لأنه لا يفيد إلا الظن ، وقد ضعف الإبياري القول بالمنع ، وقال : بل ما تعبدنا فيه بالعلم جاز أن يثبت بالقياس ، الذي يفيده ، وقد قسم المحققون القياس إلى ما يفيد العلم ، وإلى ما لا يفيده . وقال ابن دقيق العيد : في " شرح العنوان " : لعل هذا الشرط مبني على أن دليل ( القياس ظني ، فلو كان قطعيا ، وعلمنا العلة قطعا ، ووجودها في الفرع قطعا ، فقد علمنا الحكم قطعا ، ومن نظر لأن دليل ) الأصل وإن كان قطعيا ، وعلمنا العلة ووجودها في الفرع قطعا فنفس الإلحاق ، وإثبات مثل حكم الأصل للفرع ليس بقطعي .

                        وقد تقدم ابن دقيق العيد إلى مثل هذا الفخر الرازي .

                        ( العاشر ) : أن لا يكون معدولا به عن قاعدة القياس ، كشهادة خزيمة وعدد الركعات ، ومقادير الحدود ، وما يشابه ذلك; لأن إثبات القياس عليه إثبات للحكم مع منافيه ، وهذا هو معنى قول الفقهاء : الخارج عن القياس لا يقاس عليه .

                        وممن ذكر هذا الشرط الفخر الرازي ، والآمدي ، وابن الحاجب ، وغيرهم وأطلق ابن برهان أن مذهب أصحاب الشافعي جواز القياس على ما عدل به عن سنن القياس . وأما الحنفية وغيرهم فمنعوه ، وكذلك منع منه الكرخي إلا بإحدى خلال :

                        ( إحداها ) : أن يكون ما ورد على خلاف الأصول قد نص على علته .

                        [ ص: 604 ] ( ثانيتها ) : أن تكون الأمة مجمعة على تعليل ما ورد به الخبر ، وإن اختلفوا في علته .

                        ( ثالثتها ) : أن يكون الحكم الذي ورد به الخبر موافقا للقياس على بعض الأصول ، وإن كان مخالفا للقياس على أصل آخر .

                        ( الحادي عشر ) : أن لا يكون حكم الأصل مغلظا ، على خلاف في ذلك .

                        ( الثاني عشر ) : أن لا يكون الحكم في الفرع ثابتا قبل الأصل; لأن الحكم المستفاد متأخر عن المستفاد منه بالضرورة ، فلو تقدم لزم اجتماع النقيضين ، أو الضدين ، وهو محال .

                        هذا حاصل ما ذكروه من الشروط المعتبرة في الأصل .

                        وقد ذكر بعض أهل الأصول شروطا ، والحق عدم اعتبارها .

                        ( فمنها ) : أن يكون الأصل قد انعقد الإجماع على أن حكمه معلل ، ذكر ذلك بشر المريسي والشريف المرتضى .

                        ( ومنها ) : أن يشترط في الأصل أن لا يكون غير محصور بالعدد ، قال ذلك جماعة ، وخالفهم الجمهور .

                        ( ومنها ) : الاتفاق على وجود العلة في الأصل ، قاله البعض ، وخالفهم الجمهور .

                        ( ومنها : تأثير الأصل في كل بوضوح ، ذكره البعض ، وخالفهم الجمهور ) .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية