الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم

                                                                                                                                                                                                وهو أهون عليه فيما يجب عندكم وينقاس على أصولكم ويقتضيه معقولكم ؛ لأن من أعاد منكم صنعة شيء كانت أسهل عليه وأهون من إنشائها ، وتعتذرون للصانع إذا خطئ في بعض ما ينشئه بقولكم : أول الغزو أخرق ، وتسمون الماهر في صناعته معاودا ، تعنون أنه عاودها كرة بعد أخرى ؛ حتى مرن عليها وهانت عليه . فإن قلت : لم ذكر الضمير في قوله : وهو أهون عليه والمراد به الإعادة ؟ قلت : معناه : وأن يعيده أهون عليه . فإن قلت : لم أخرت الصلة في قوله : وهو أهون عليه وقدمت في قوله : هو علي هين [مريم : 21 ] ؟ قلت : هناك قصد الاختصاص وهو محزه ، فقيل : [ ص: 575 ] هو علي هين ، وإن كان متصعبا عندكم أن يولد بين هم وعاقر ؛ وأما ها هنا فلا معنى للاختصاص ، كيف والأمر مبني على ما يعقلون من أن الإعادة أسهل من الابتداء ؛ فلو قدمت الصلة لتغير المعنى . فإن قلت : ما بال الإعادة استعظمت في قوله : ثم إذا دعاكم حتى كأنها فضلت على قيام السماوات والأرض بأمره ، ثم هونت بعد ذلك ؟ قلت : الإعادة في نفسها عظيمة ، ولكنها هونت بالقياس إلى الإنشاء . وقيل الضمير في عليه للخلق . ومعناه : أن البعث أهون على الخلق من الإنشاء ، لأن تكوينه في حد الاستحكام ، والتمام أهون عليه وأقل تعبا وكبدا ، من أن يتنقل في أحوال ويندرج فيها إلى أن يبلغ ذلك الحد . وقيل : الأهون بمعنى الهين . ووجه آخر : وهو أن الإنشاء من قبيل التفضل الذي يتخير فيه الفاعل بين أن يفعله وأن لا يفعله ، والإعادة من قبيل الواجب الذي لا بد له من فعله ، لأنها لجزاء الأعمال وجزاؤها واجب ، والأفعال : إما محال والمحال ممتنع أصلا خارج عن [ ص: 576 ] المقدور ، وإما ما يصرف الحكيم عن فعله صارف وهو القبيح ، وهو رديف المحال ؛ لأن الصارف يمنع وجود الفعل كما تمنعه الإحالة . وإما تفضل والتفضل حالة بين بين ، للفاعل أن يفعله وأن لا يفعله . وإما واجب لا بد من فعله ، ولا سبيل إلى الإخلال به ، فكان الواجب أبعد الأفعال من الامتناع وأقربها من الحصول . فلما كانت الإعادة من قبيل الواجب كانت أبعد الأفعال من الامتناع . وإذا كانت أبعدها من الامتناع ، كانت أدخلها في التأني والتسهل ، فكانت أهون منها . وإذا كانت أهون منها كانت أهون من الإنشاء وله المثل الأعلى أي : الوصف الأعلى الذي ليس لغيره مثله قد عرف به . ووصف في السماوات والأرض على ألسنة الخلائق وألسنة الدلائل ، وهو أنه القادر الذي لا يعجز عن شيء من إنشاء وإعادة وغيرهما من المقدورات ، ويدل عليه قوله تعالى : وهو العزيز الحكيم أي القاهر لكل مقدور ، "الحكيم" الذي يجري كل فعل على قضايا حكمته وعلمه . وعن مجاهد : المثل الأعلى قول لا إله إلا الله ، ومعناه : وله الوصف الأعلى الذي هو الوصف بالوحدانية . ويعضده قوله تعالى : ضرب لكم مثلا من أنفسكم [الروم : 28 ] وقال الزجاج : وله المثل الأعلى في السماوات والأرض ، أي : قوله تعالى : وهو أهون عليه [الروم :27 ] قد ضربه لكم مثلا فيما يصعب ويسهل . يريد : التفسير الأول .

                                                                                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                                                                                الخدمات العلمية