الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              3089 باب وصية النبي "صلى الله عليه وآله وسلم"

                                                                                                                              بإخراج المشركين: من جزيرة العرب، وبإجازة الوفد

                                                                                                                              وذكره النووي في: (باب ترك الوصية... إلخ ) .

                                                                                                                              حديث الباب

                                                                                                                              وهو بصحيح مسلم \ النووي ص89-90 ج11 المطبعة المصرية

                                                                                                                              [عن سعيد بن جبير، قال: قال ابن عباس: يوم الخميس وما يوم الخميس! ثم بكى حتى بل دمعه الحصى. فقلت: يا ابن عباس! وما يوم الخميس ؟

                                                                                                                              قال: اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه، فقال: "ائتوني أكتب لكم كتابا، لا تضلوا بعدي". فتنازعوا -وما ينبغي عند نبي تنازع- وقالوا: ما شأنه ؟ أهجر ؟ استفهموه. قال: "دعوني. فالذي أنا فيه خير. أوصيكم بثلاث؛ أخرجوا المشركين من جزيرة العرب. وأجيزوا الوفد: بنحو ما كنت أجيزهم" قال: وسكت عن الثالثة. أو قالها فأنسيتها
                                                                                                                              . ]

                                                                                                                              [ ص: 157 ]

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              [ ص: 157 ] (الشرح)

                                                                                                                              (عن سعيد بن جبير، قال: قال ابن عباس ) رضي الله عنهما؛ (يوم الخميس! وما يوم الخميس! ) .

                                                                                                                              معناه: تفخيم أمره في الشدة والمكروه، فيما يعتقده ابن عباس، وهو امتناع الكتاب. ولهذا قال ابن عباس: "الرزية كل الرزية: ما حال بين رسول الله "صلى الله عليه وآله وسلم"، وبين أن يكتب هذا الكتاب". هذا مراد ابن عباس. وإن كان الصواب: ترك الكتاب، كما ذكره النووي.

                                                                                                                              (ثم بكى حتى بل دمعه الحصى ) . وفي رواية: "ثم جعل تسيل دموعه، حتى رأيت على خديه: كأنها نظام اللؤلؤ".

                                                                                                                              (فقلت: يا ابن عباس! وما يوم الخميس ؟ قال: اشتد برسول الله صلى الله عليه ) وآله (وسلم وجعه، فقال: "ائتوني أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعدي" ) .

                                                                                                                              وفي رواية أخرى: (ائتوني بالكتف والدواة - أو اللوح والدواة - أكتب لكم كتابا، لن تضلوا بعده أبدا" فقالوا: إن [ ص: 158 ] رسول الله "صلى الله عليه وآله وسلم" يهجر ) .

                                                                                                                              (فتنازعوا - وما ينبغي عند نبي تنازع - قالوا: وما شأنه ) ؟ أهجر ؟ استفهموه. قال: "دعوني. فالذي أنا فيه خير" ) .

                                                                                                                              معناه: دعوني من النزاع واللغط، الذي شرعتم فيه، فالذي أنا فيه: من مراقبة الله تعالى، والتأهب للقائه، والفكر في ذلك ونحوه: أفضل مما أنتم فيه.

                                                                                                                              وفي رواية أخرى: (" فقال عمر، رضي الله عنه: "إن رسول الله صلى الله عليه" وآله "وسلم، قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله" فاختلف أهل البيت، فاختصموا، فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم رسول الله "صلى الله عليه وآله وسلم" كتابا، لن تضلوا بعده. ومنهم من يقول: ما قال عمر. فلما أكثروا اللغو والاختلاف، عند رسول الله "صلى الله عليه وآله وسلم"، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قوموا". قال عبيد الله: فكان ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية: ما حال بين رسول الله "صلى الله عليه وآله وسلم"، وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب؛ من اختلافهم، ولغطهم ) .

                                                                                                                              قال النووي: اعلم أن النبي "صلى الله عليه وآله وسلم"، معصوم من الكذب، ومن تغيير شيء من الأحكام الشرعية، في حال صحته وحال [ ص: 159 ] مرضه، ومعصوم من ترك بيان ما أمر ببيانه، وتبليغ ما أوجب الله تعالى عليه تبليغه. وليس معصوما من الأمراض والأسقام، العارضة للأجسام ونحوها، مما لا نقص فيه لمنزلته، ولا فساد لما تمهد من شريعته. وقد سحر "صلى الله عليه وآله وسلم"، حتى صار يخيل إليه أنه فعل الشيء ولم يكن فعله، ولم يصدر منه في هذا الحال: كلام في الأحكام مخالف لما سبق من الأحكام التي قررها.

                                                                                                                              فإذا علمت ما ذكرناه: فقد اختلف العلماء في الكتاب الذي هم به؛ فقيل: أراد أن ينص على الخلافة في إنسان معين، لئلا يقع نزاع وفتن.

                                                                                                                              وقيل: أراد كتابا تبين فيه مهمات الأحكام ملخصة، ليرتفع النزاع فيها، ويحصل الاتفاق على المنصوص عليه. وكان النبي "صلى الله عليه وآله وسلم" هم بالكتاب حين ظهر له أنه مصلحة، أو أوحي إليه بذلك. ثم ظهر: أن المصلحة تركه، أو أوحي إليه بذلك. ونسخ ذلك الأمر الأول..

                                                                                                                              وأما كلام عمر "رضي الله عنه"؛ فقد اتفق العلماء المتكلمون في شرح الحديث: على أنه من دلائل فقه عمر وفضائله، ودقيق نظره، لأنه خشي أن يكتب "صلى الله عليه وآله وسلم" أمورا، ربما عجزوا عنها، واستحقوا العقوبة عليها، لأنها منصوصة لا مجال للاجتهاد فيها. فقال عمر: حسبنا كتاب الله. لقوله تعالى: ما فرطنا في الكتاب من شيء . [ ص: 160 ] وقوله: اليوم أكملت لكم دينكم ، فعلم: أن الله تعالى أكمل دينه، فأمن الضلال على الأمة، وأراد الترفيه على رسول الله "صلى الله عليه وآله وسلم". فكان عمر أفقه من ابن عباس وموافقيه.

                                                                                                                              قال البيهقي في أواخر كتابه "دلائل النبوة": إنما قصد عمر التخفيف على رسول الله "صلى الله عليه وآله وسلم"، حين غلبه الوجع.. ولو كان مراده "صلى الله عليه وآله وسلم": أن يكتب ما لا يستغنون عنه: لم يتركه لاختلافهم ولا لغيره، لقوله تعالى: بلغ ما أنـزل إليك . كما لم يترك تبليغ غير ذلك، لمخالفة من خالفه، ومعاداة من عاداه. كما أمر في ذلك الحال: بإخراج اليهود من جزيرة العرب وغير ذلك، مما ذكره في الحديث.

                                                                                                                              قال: وفي تركه "صلى الله عليه وآله وسلم" الإنكار على عمر: دليل على استصوابه. انتهى.

                                                                                                                              والكلام في معنى هذا الحديث وتأويله: يطول جدا، ووقع عليه زلازل وقلاقل كثيرة في كتب الشيعة. والجواب عليها من أهل السنة. والأمر أهون من ذلك.

                                                                                                                              (أوصيكم بثلاث؛ أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ) .

                                                                                                                              [ ص: 161 ] قال أبو عبيد، قال: الأصمعي: "جزيرة العرب": ما بين أقصى عدن اليمن، إلى ريف العراق، في الطول. وفي العرض: من جدة وما والاها، إلى أطراف الشام.

                                                                                                                              وقال أبو عبيدة: هي ما بين حفر أبي موسى، إلى أقصى اليمن في الطول وما بين رمل يبرين إلى منقطع السماوة في العرض.

                                                                                                                              وسميت "جزيرة": لإحاطة البحار بها من نواحيها، وانقطاعها عن المياه العظيمة.

                                                                                                                              وفي التهذيب: جزيرة العرب: "محالها". سميت "جزيرة": لأن البحرين (بحر فارس، وبحر السودان ) أحاطا بناحيتيها. وأحاط بجانب الشمال: دجلة، والفرات. وهي أرض العرب ومعدنها. انتهى.

                                                                                                                              واختلفوا في حدودها اختلافا كثيرا، كادت الأقوال تضطرب ويصادم بعضها بعضا. وقد ذكر أكثرها صاحب المراصد، والمصباح؛

                                                                                                                              فقيل: جزيرة العرب: ما أحاط به بحر الهند وبحر الشام، ثم دجلة والفرات: فالفرات ودجلة: من جهة مشرقها. وبحر الهند: من جنوبها [ ص: 162 ] إلى عدن، ودخل فيه بحر البصرة، وعبادان، وساحل مكة إلى أيلة، إلى القلزم. وبحر الشام: على جهة الشمال، ودخل فيه بحر الروم، وسواحل الأردن، حتى يخالط بالناحية التي أقبل منها الفرات.

                                                                                                                              أو جزيرة العرب: ما بين عدن أبين، إلى أطوار الشام طولا. (وقيل: إلى أقصى اليمن في الطول ) . ومن ساحل جدة، وما والاها من شاطئ البحر "كأيلة والقلزم"، إلى أطراف ريف العراق عرضا. وهذا قول الأصمعي.

                                                                                                                              وقال أبو عبيدة: هي ما بين حفر أبي موسى، إلى أقصى تهامة: في الطول. وأما العرض: فما بين رمل "يبرين"، إلى منقطع السماوة. قال: وكل هذه المواضع، إنما سميت بذلك: لأن بحر فارس، وبحر الحبش، ودجلة، والفرات: قد أحاطت بها.

                                                                                                                              ونقل البكري: أن جزيرة العرب: مكة، والمدينة، واليمن، واليمامة.

                                                                                                                              وروي عن ابن عباس، أنه قال: جزيرة العرب: تهامة، ونجد، والحجاز، وعروض، ويمن. وفيها أقوال غير ذلك. وما أوردناه هو الخلاصة.

                                                                                                                              وأصل الجزر في اللغة: "القطع"، وأضيفت إلى العرب: لأنها الأرض [ ص: 163 ] التي كانت بأيديهم قبل الإسلام، وديارهم التي هي أوطانهم وأوطان أسلافهم. وحكى الهروي عن مالك: "أن جزيرة العرب": هي المدينة.

                                                                                                                              والصحيح المعروف عن مالك: أنها مكة، والمدينة، واليمامة، واليمن.

                                                                                                                              وأخذ بهذا الحديث: مالك، والشافعي وغيرهما من العلماء، فأوجبوا إخراج الكفار من جزيرة العرب، وقالوا: لا يجوز تمكينهم من سكناها. ولكن الشافعي خص هذا الحكم: ببعض جزيرة العرب، وهو الحجاز". وهو عنده: مكة، والمدينة، واليمامة، وأعمالها دون اليمن" وغيره مما هو من جزيرة العرب. بدليل آخر مشهور، في كتبه وكتب أصحابه.

                                                                                                                              قال العلماء: ولا يمنع الكفار من التردد مسافرين في الحجاز، ولا يمكنون من الإقامة فيه أكثر من ثلاثة أيام. قال الشافعي وموافقوه: إلا مكة وحرمها، فلا يجوز تمكين كافر من دخوله بحال. فإن دخله في خفية: وجب إخراجه. فإن مات ودفن فيه: نبش وأخرج، ما لم يتغير.

                                                                                                                              قال النووي: هذا مذهب الشافعي، وجماهير الفقهاء.

                                                                                                                              وجوز أبو حنيفة: دخولهم الحرم.

                                                                                                                              [ ص: 164 ] وحجة الجماهير: قول الله تعالى: إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا . والله أعلم.

                                                                                                                              (وأجيزوا الوفد: بنحو ما كنت أجيزهم ) .

                                                                                                                              قال أهل العلم: هذا أمر منه "صلى الله عليه وآله وسلم": بإجازة الوفود، وضيافتهم، وإكرامهم: تطييبا لنفوسهم، وترغيبا لغيرهم من المؤلفة قلوبهم ونحوهم، وإعانة على سفرهم. قال عياض: سواء كان الوفد مسلمين أو كفارا. لأن الكافر، إنما يفد غالبا فيما يتعلق بمصالحنا ومصالحهم.

                                                                                                                              (قال: وسكت عن الثالثة، أو قالها فأنسيتها ) .

                                                                                                                              الساكت: ابن عباس. والناسي: سعيد بن جبير.

                                                                                                                              قال المهلب: "الثالثة": هي تجهيز جيش أسامة "رضي الله عنه".

                                                                                                                              قال عياض: ويحتمل: أنها قوله "صلى الله عليه وآله وسلم": "لا تتخذوا قبري وثنا يعبد". فقد ذكر مالك في الموطأ: معناه، مع إجلاء اليهود، من حديث عمر "رضي الله عنه".

                                                                                                                              وفي هذا الحديث: فوائد سوى ما ذكرناه؛

                                                                                                                              منها: جواز كتابة العلم.

                                                                                                                              ومنها: جواز استعمال المجاز. لقوله "صلى الله عليه وآله وسلم": " أكتب لكم، أي: آمر بالكتابة.

                                                                                                                              [ ص: 165 ] ومنها: أن الأمراض ونحوها، لا تنافي النبوة، ولا تدل على سوء الحال.




                                                                                                                              الخدمات العلمية