الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          [ ص: 414 ] مسألة : ومن طلق امرأته ثلاثا كما ذكرنا لم يحل له زواجها إلا بعد زوج يطؤها في فرجها بنكاح صحيح في حال عقله وعقلها ولا بد - ولا يحلها له وطء في نكاح فاسد ، ولا وطء في دبر ، ولا وطؤها في نكاح صحيح - وهي في غير عقلها بإغماء أو بسكر أو بجنون ، ولا هو كذلك - فإن بقي من حسه أو من حسها - في هذه الأحوال ، أو في النوم - ما تدرك به اللذة أحلها ذلك إذا مات ذلك الزوج أو طلقها ، أو انفسخ نكاحها منه بعد صحته .

                                                                                                                                                                                          وكذلك إن كان النكاح صحيحا ثم وطئها في حال لا يحل فيه الوطء من صوم [ ص: 415 ] فرض منه ، أو منها ، أو إحرام كذلك ، أو اعتكاف كذلك ، أو وهي حائض : فكل ذلك لا يحلها - ويحلها العبد يتزوجها ، والذمي - إن كانت هي ذمية - ولا يحلها - إن كانت أمة - : وطء سيدها لها .

                                                                                                                                                                                          برهان ذلك : قول الله عز وجل : { فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله } ففي هذه الآية عموم كل زوج ، ولا يكون زواجا إلا من كان زواجه صحيحا .

                                                                                                                                                                                          وأما من تزوج بخلاف ما أمره الله عز وجل فليس زوجا ، ولا عد زواجا ، وفيها تحليل رجعته لها بعد طلاق الزوج .

                                                                                                                                                                                          وبقي أمر الوطء ، وأمر موت الزوج الثاني ، وانفساخ نكاحه : فوجدنا ما رويناه من طريق أبي داود السجستاني نا مسدد نا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم النخعي عن الأسود عن عائشة أم المؤمنين قالت : { سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته - تعني ثلاثا - فتزوجت غيره فطلقها قبل أن يواقعها ، أتحل لزوجها الأول ؟ قالت : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تحل للأول حتى تذوق عسيلة الآخر ويذوق عسيلتها } . [ ص: 416 ]

                                                                                                                                                                                          ففي هذا الخبر زيادة عموم حلها له بالوطء لا بغيره ، فدخل في ذلك موته ، وانفساخ نكاحه بعد صحته ، ودخل في عموم ذوق العسيلة كل ما ذكرنا قبل - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          وإنما قلنا " إن وطء السيد لا يحلها لزوجها المطلق لها " لأنه ليس زوجا ، وإنما أحلها له تعالى بعد أن تنكح زوجا غيره .

                                                                                                                                                                                          وفي كثير مما ذكرنا خلاف من ذلك عن سعيد بن المسيب ، قال : كما روينا من طريق سعيد بن منصور نا هشيم أنا داود بن أبي هند عن سعيد بن المسيب في المطلقة ثلاثا ثم تتزوج ؟ قال سعيد : أما الناس فيقولون : يجامعها ، وأما أنا فإني أقول : إذا تزوجها بتزويج صحيح لا يريد بذلك إحلالا ، فلا بأس أن يتزوجها الأول . [ ص: 417 - 419 ]

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : كان ينبغي لمن يقول في رده حديث المسح على العمامة وحديث الخمس رضعات إن هذا زائد على القرآن فلا يجوز أن يؤخذ منه إلا ما جاء مجيء تواتر أن يقول بقول سعيد ههنا ، لأن خبر عائشة في ذوق العسيلة زائد على ما في القرآن لم يأت إلا من طريق عائشة - رضي الله عنها - التي من قبلها جاء خبر الخمس رضعات ولا فرق .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق ابن عباس ، وروي غير صحيح من طريق أنس ، وابن عمر .

                                                                                                                                                                                          وكذلك ينبغي لمن قال برد السنة الثانية في أن لا يتم بيع إلا بأن يفترقا عن موضعهما فإن مما تكثر به البلوى أن يقول بقول سعيد ، ويقول : هذا مما تكثر به البلوى ، فلو صح ما خفي عن سعيد - وجاء عن الحسن : أنها لا تحل لزوجها الأول وإن وطئها الثاني إلا حتى ينزل فيها . [ ص: 420 ]

                                                                                                                                                                                          ولقد ينبغي للمالكيين القائلين : إن التحريم يدخل بأرق الأسباب ، ولا يدخل التحليل إلا بأغلظ الأسباب ، أن يقول بقول الحسن هذا - ولكن تناقضهم أكثر من ذلك .

                                                                                                                                                                                          واختلفوا في المسلم يطلق الكتابية ثلاثا فتتزوج كتابيا ويطؤها ثم يموت ؟ فقال الحسن البصري ، والزهري ، وسفيان الثوري ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، وأبو سليمان ، وأصحابهم : أنها قد حلت للأول .

                                                                                                                                                                                          وقال ربيعة ، ومالك : لا يحلها - وما نعلم لهم شغبا إلا قولهم : ليس له طلاق ؟ فقلنا : فكان ماذا ؟ أي شيء في ذلك مما يمنع من إحلالها إن مات أو انفسخ نكاحه منها .

                                                                                                                                                                                          ثم نسألهم : إن تزوجها ووطئها ثم أسلم ولم يطأها بعد إسلامه ثم طلقها أيحلها له أم لا ؟ فإن قالوا : لا يحلها له ، بطل تعليلهم بأنه لا طلاق له ، إذ قد صح طلاقه ، وإن قالوا : بل يحلها : نقضوا قولهم في أن وطء الزوج الكتابي لا يحلها .

                                                                                                                                                                                          وأما اختلافهم في النكاح الفاسد ، فجمهور الناس على هذا ، إلا شيئا روي عن الحكم بن عتيبة : أنه يحلها - وهذا خطأ ، لأنه ليس زوجا ، ولو كان زوجا ما حل أن يفرق بينهما بلا معنى إلا فساد عقده فقط .

                                                                                                                                                                                          وأما الاختلاف في هل يحلها وطء سيدها إن كانت أمة ؟ فروينا من طريق الحجاج بن المنهال نا يزيد بن زريع نا خالد عن مروان الأصفر عن أبي رافع ، قال : دخلنا على عثمان أمير المؤمنين فسألناه عن رجل كانت تحته أمة فطلقها فبانت منه ، فخلف عليها سيدها ثم خلا عنها ، وعنده زيد بن ثابت ، ورجل آخر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالا جميعا : لا بأس به .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق حماد بن سلمة عن قتادة عن الحسن : أن زيد بن ثابت ، والزبير بن العوام كانا لا يريان بأسا بالأمة يطلقها زوجها فيتسراها سيدها ثم يتزوجها زوجها ، قالا جميعا : إذا لم يرد السيد بذلك إحلالها فليس به بأس . [ ص: 421 ]

                                                                                                                                                                                          ومن طريق يحيى بن سعيد القطان عن أشعث بن عبد الملك الحمراني عن الحسن البصري عن زيد بن ثابت قال : السيد زوج .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس في العبد يبت الأمة أنه يحلها أن يطأها سيدها - قال عطاء : من كانت زوجته أمة فبتها ثم ابتاعها قبل أن تنكح غيره فحلال له وطؤها ، فإن وطئها ثم أعتقها فله أن يتزوجها ، فإن أعتقها قبل أن يطأها لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره ؟ وهذا تقسيم لا برهان على صحته .

                                                                                                                                                                                          وروينا خلاف هذا عن غيرهم - : كما روينا من طريق الحجاج بن المنهال نا يزيد بن زريع نا خالد - هو الحذاء - عن الحكم بن عتيبة عن علي بن أبي طالب قال : حتى تحل له من حيث حرمت عليه - يعني : الأمة تطلق فيطأها سيدها دون أن تتزوج زوجا آخر .

                                                                                                                                                                                          وبه إلى خالد الحذاء عن أبي معشر عن إبراهيم النخعي عن عبيدة السلماني عن ابن مسعود قال : لا تحل له إلا من حيث حرمت عليه - وصح عن مسروق أنه رجع إلى القول بعد أن أفتى بقول زيد .

                                                                                                                                                                                          وأما هل تحل لسيدها بملك اليمين إذا اشتراها بعد أن كانت زوجته وطلقها ثلاثا ؟ فقد ذكرنا آنفا عن عطاء .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جرير قلت لعطاء : رجل بت أمة ثم ابتاعها ولم تنكح بعده أحدا ، أتحل له ؟ قال : نعم ، كان ابن عباس يقوله .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن إسماعيل بن أمية عن ابن قسيط أن كثيرا مولى الصلت طلقها تطليقتين ثم اشتراها فأعتقها ؟ فقال زيد بن ثابت : لو كنت وطئتها بملك حلت لك ، ولكن لا تحل لك حتى تنكح زوجا غيرك .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق حماد بن سلمة عن زياد الأعلم عن الحسن مثل قول زيد وعطاء سواء سواء - صح عن غيرهم خلاف ذلك : روينا : أنه لا تحل لسيدها بملك اليمين إذا اشتراها بعد أن طلقها ثلاثا عن عثمان ، وزيد بن ثابت - وصح عن جابر بن عبد الله ، وعن علي بن أبي طالب أنه كره [ ص: 422 ] ذلك - وصح عن مسروق ، والنخعي ، وعبيدة السلماني ، والشعبي ، وابن المسيب ، وسليمان بن يسار .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : ولا يحل للسيد أن يرى من عورتها شيئا إلا ما يرى من حريمته ، ولا أن يتلذذ بها ، لقول الله عز وجل : { فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره } فعم تعالى ولم يخص ، بخلاف الكتابية ، والحائض ، والصائمة فرضا ، والمحرمة ، لأن هؤلاء إنما حرم نكاحهن فقط - وهو الوطء - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية