الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                  [ ص: 192 ] الآفة العاشرة : المزاح :

                                                                  والمنهي عنه المذموم منه هو المداومة عليه والإفراط فيه ، فأما المداومة فلأنه اشتغال باللعب والهزل ، وأما الإفراط فيه فإنه يورث كثرة الضحك ، والضغينة في بعض الأحوال ، ويسقط المهابة والوقار ، وأما ما يخلو عن هذه الأمور ، فلا يذم ، كما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " إني لأمزح ولا أقول إلا حقا " ألا إن مثله يقدر على أن يمزح ولا يقول إلا حقا ، وأما غيره إذا فتح باب المزاح كان غرضه أن يضحك الناس كيفما كان .

                                                                  وقد قال " عمر " : " من مزح استخف به " .

                                                                  وقال " سعيد بن العاص " لابنه : " يا بني ، لا تمازح الشريف فيحقد عليك ، ولا الدنيء فيجترئ عليك " .

                                                                  وقيل : لكل شيء بذر ، وبذر العداوة المزاح " ويقال : " المزاح مسلبة للنهى ، مقطعة للأصدقاء " .

                                                                  ومن الغلط العظيم أن يتخذ المزاح حرفة يواظب عليه ، ويفرط فيه ، ثم يتمسك بفعل الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهو كمن يدور نهاره مع الزنوج ينظر إليهم وإلى رقصهم ، ويتمسك بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أذن " لعائشة " في النظر إلى رقص الزنوج في يوم عيد ، وهو خطأ .

                                                                  وبالجملة فإن كنت تقدر على أن تمزح ، ولا تقول إلا حقا ، ولا تؤذي قلبا ، ولا تفرط فيه ، وتقتصر عليه أحيانا على الندور - فلا حرج عليك فيه .

                                                                  ومن مطايباته - صلى الله عليه وسلم - ما روي أن عجوزا أتته ، فقال لها : " لا يدخل الجنة عجوز ، " فبكت ، فقال لها : "إنك لست بعجوز يومئذ ، قال الله تعالى : ( إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكارا ) [ الواقعة : 35 ، 36 ] وجاءت امرأة إليه - صلى الله عليه وسلم - فقالت : " إن زوجي يدعوك " قال : " ومن هو ؟ أهو الذي بعينه بياض ؟ " قالت : " والله ما بعينه بياض " ، قال : " بلى إن بعينه بياضا " ، فقالت : " لا والله " فقال - صلى الله عليه وسلم : " ما من أحد إلا وبعينه بياض " وأراد بالبياض المحيط بالحدقة .

                                                                  وجاءت امرأة أخرى فقالت : " يا رسول الله احملني على بعير " ، فقال : " بل نحملك على ابن البعير " فقالت : " ما أصنع به ؟! إنه لا يحملني " ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : " ما من بعير إلا وهو ابن بعير " .

                                                                  وقال " أنس " : كان " لأبي طلحة " ابن يقال له " أبو عمير " ، وكان رسول الله يأتيهم ويقول : " أبا عمير ، ما فعل النغير " النغير كان يلعب به ، وهو فرخ العصفور .

                                                                  وقالت " عائشة " رضي الله عنها : خرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة بدر ، فقال : " تعالي حتى أسابقك " فشددت علي درعي ، ثم خططنا خطا فقمنا عليه واستبقنا ، فسبقني وقال : " هذه مكان ذي المجاز " وذلك أنه جاء يوما ونحن بذي المجاز وأنا جارية ، فقد بعثني أبي بشيء ، فقال : " أعطينيه " ، فأبيت وسعيت ، وسعى في أثري فلم يدركني .

                                                                  وقالت أيضا : كان عندي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسودة بنت زمعة ، فصنعت خزيرا وجئت به ، فقلت [ ص: 193 ] لسودة : " كلي " ، فقالت : " لا أحبه " ، فقلت : " والله لتأكلن أو لألطخن به وجهك " ، فقالت : " ما أنا ذائقته " ، فأخذت بيدي من الصحفة شيئا منه فلطخت به وجهها ، ورسول الله جالس بيني وبينها ، فخفض لها ركبته لتستقيد ، فتناولت من الصحفة شيئا فمسحت به وجهي ، وجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضحك .

                                                                  وعن " أبي سلمة " أنه كان - صلى الله عليه وسلم - يدلع لسانه " للحسن بن علي " رضي الله عنهما ، فيرى الصبي لسانه فيهش له .

                                                                  وقال : " عيينة الفزاري " : " والله ليكونن لي الابن قد تزوج وبقل وجهه وما قبلته قط " ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : " إن من لا يرحم لا يرحم " .

                                                                  فأكثر هذه المطايبات منقولة مع النساء والصبيان ، وكان ذلك منه - صلى الله عليه وسلم - معالجة لضعف قلوبهم من غير ميل إلى هزل .

                                                                  وقال - صلى الله عليه وسلم - مرة " لصهيب "وبه رمد وهو يأكل تمرا : " أتأكل التمر وأنت رمد " فقال : " إنما آكل بالشق الآخر يا رسول الله " فتبسم صلى الله عليه وسلم . قال بعض الرواة : "حتى نظرت إلى نواجذه " .

                                                                  وكان " نعيمان الأنصاري " رجلا مزاحا ، لا يدخل المدينة طرفة إلا اشترى منها ثم أتى بها النبي - صلى الله عليه وسلم - فيقول : " يا رسول الله ، هذا قد اشتريته لك وأهديته لك " فإذا جاء صاحبها يتقاضاه بالثمن جاء به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال : " يا رسول الله أعطه ثمن متاعه " فيقول له - صلى الله عليه وسلم - : " أولم تهده لنا ؟! " فيقول : " يا رسول الله ، إنه لم يكن عندي ثمنه وأحببت أن تأكل منه " فيضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - ويأمر لصاحبه بثمنه . فهذه مطايبات يباح مثلها على الندور لا على الدوام .

                                                                  التالي السابق


                                                                  الخدمات العلمية