الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              أما الأبواب فهي خمسة : الباب الأول : في أن العموم هل له صيغة أم لا ؟ واختلاف المذاهب فيه الباب الثاني : في تمييز ما يمكن دعوى العموم فيه عما لا يمكن . الباب الثالث : في تفصيل الأدلة المخصصة . الباب الرابع : في تعارض العمومين . الباب الخامس : في الاستثناء ، والشرط . الباب الأول : في أن العموم هل له صيغة في اللغة أم لا .

              ولنشرح أولا صيغ العموم عند القائلين بها ، ثم اختلاف المذاهب ، ثم أدلة أرباب الخصوص ، ثم أدلة أرباب العموم ، ثم أدلة أرباب الوقف ، ثم المختار فيه عندنا ، ثم حكم العام عند القائلين به إذا دخله التخصيص ; فهذه سبعة فصول في صيغ العموم .

              واعلم أنها عند القائلين بها خمسة أنواع :

              الأول : ألفاظ الجموع ، إما المعرفة كالرجال ، والمشركين ، وإما المنكرة كقولهم : رجال ، ومشركون كما قال تعالى : { ما لنا لا نرى رجالا } ، والمعرفة للعموم إذا لم يقصد بها تعريف المعهود ، كقولهم : " أقبل الرجل ، والرجال " أي : المعهودون المنتظرون

              الثاني : من " " وما " إذا وردا للشرط ، والجزاء كقوله : عليه السلام { من أحيا أرضا ميتة فهي له ، وعلى اليد ما أخذت حتى تؤديه } ، وفي معناه " متى " " وأين " للمكان ، والزمان كقوله : متى جئتني أكرمتك ، وأينما كنت أتيتك

              الثالث : ألفاظ النفي ، كقولك : ما جاءني أحد ، وما في الدار ديار .

              الرابع : الاسم المفرد إذا دخل عليه الألف ، واللام لا للتعريف كقوله تعالى : { إن الإنسان لفي خسر } وقوله : { ، والسارق والسارقة } . أما النكرة [ ص: 226 ] كقولك : " مشرك ، وسارق " فلا يتناول إلا واحدا .

              الخامس : الألفاظ المؤكدة ، كقولهم : " كل " " وجميع " " وأجمعون " " وأكتعون " . تفصيل المذاهب : اعلم أن الناس اختلفوا في هذه الأنواع الخمسة على ثلاثة مذاهب ، فقال قوم يلقبون بأرباب الخصوص : إنه موضوع لأقل الجمع ، وهو إما اثنان ، وإما ثلاثة على ما سيأتي الخلاف فيه وقال أرباب العموم : هو للاستغراق بالوضع إلا أن يتجوز به عن وضعه . وقالت الواقفية : لم يوضع لا لخصوص ، ولا لعموم بل أقل الجمع داخل فيه لضرورة صدق اللفظ بحكم الوضع ، وهو بالإضافة إلى الاستغراق للجميع أو الاقتصار على الأقل أو تناول صنف أو عدد بين الأقل والاستغراق مشترك يصلح لكل واحد من الأقسام كاشتراك لفظ الفرقة ، والنفر بين الثلاثة ، والخمسة ، والستة ، إذ يصلح لكل واحد منهم فليس مخصوصا في الوضع بعدد ، وإن كنا نعلم أن أقل الجمع لا بد منه ليجوز إطلاقه . ثم أرباب العموم اختلفوا في التفصيل في ثلاث مسائل :

              الأولى : الفرق بين المعرف ، والمنكر .

              فقال الجمهور : لا فرق بين قولنا " اضربوا الرجال " وبين قولنا " اضربوا رجالا " " واقتلوا المشركين " " واقتلوا مشركين " وإليه ذهب الجبائي وقال قوم : يدل المنكر على جمع غير معين ، ولا مقدر ، ولا يدل على الاستغراق ، وهو الأظهر .

              الثانية : اختلفوا في الجمع المعرف بالألف ، واللام كالسارقين ، والمشركين ، والفقراء ، والمساكين ، والعاملين فقال قوم : هو للاستغراق وقال قوم : هو لأقل الجمع ، ولا يحمل على الاستغراق إلا بدليل ، والأول أقوى ، وأليق بمذهب أرباب العموم الثالثة : الاسم المفرد إذا دخل عليه الألف ، واللام ، كقولهم : الدينار خير من الدرهم ، فمنهم من قال هو لتعريف الواحد فقط ، وذلك في تعريف المعهود وقال قوم : هو للاستغراق وقال قوم : يصلح للواحد ، والجنس ولبعض الجنس فهو مشترك ، ومذهب الواقفية أن جميع هذه الألفاظ مشتركة ، ولم يبق منها شيء للاستغراق حتى كل " " وكلما " " وأي " " والذي " " ومن " " وما " واختلفوا في مسألة واحدة ، فقال قوم : إنما التوقف في العمومات الواردة في الأخبار ، والوعد ، والوعيد ، أما الأمر ، والنهي فلا ، فإنا متعبدون بفهمه ، ولو كان مشتركا لكان مجملا غير مفهوم ، وهذا فاسد لا يليق بمذهب الواقفية ; لأن دليلهم لا يفرق بين جنس ، وجنس ، إذ العرب تريد بصيغ الجمع البعض في كل جنس كما تريد الكل ، ويستوي في ذلك قولهم : " فعلوا ، وافعلوا " وقولهم قتل المشركون واقتلوا المشركين " ولأن من الأخبار ما تعبد بفهمه كقوله تعالى : { وهو بكل شيء عليم } ، وقوله : { ، وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها } .

              تنبيه : لا ينبغي أن يقول الواقفية : الوقف في ألفاظ العموم جائز ، وفيما مخرجه مخرج العموم واجب فقد أطلق ذلك الشيخ أبو الحسن الأشعري وجماعة ; لأن المتوقف لا يسلم أنه لفظ العموم كما لا يسلم أنه لفظ الخصوص إلا أن يعنى به أنه لفظ العموم عند معتقدي العموم ، بل ينبغي أن يقول : التوقف في صيغ الجموع ، وأدوات الشرط واجب . [ ص: 227 ] القول في أدلة أرباب العموم ، ونقضها ، وهي خمسة :

              الدليل الأول : أن أهل اللغة بل أهل جميع اللغات كما عقلوا الأعداد ، والأنواع ، والأشخاص ، والأجناس ، ووضعوا لكل واحد اسما لحاجتهم إليه عقلوا أيضا معنى العموم ، واستغراق الجنس واحتاجوا إليه ، فكيف لم يضعوا له صيغة ، ولفظا ؟ الاعتراض من أربعة أوجه :

              الأول : أن هذا قياس ، واستدلال في اللغات ، واللغة تثبت توقيفا ، ونقلا لا قياسا ، واستدلالا بل هي كسنن الرسول عليه السلام ، وليس لقائل أن يقول : الشارع كما عرف الأشياء الستة وجريان الربا فيها ، ومست إليه حاجة الخلق ، ونص عليها فينبغي أن يكون قد نص على سائر الربويات ، وهذا فاسد .

              الثاني : أنه ، وإن سلم أن ذلك واجب في الحكمة فمن يسلم عصمة ، واضعي اللغة حتى يخالفوا الحكمة في وضعها ، وهم في حكم من يترك مالا . تقتضي الحكمة تركه الثالث : أن هذا منقوض فإن العرب عقلت الماضي ، والمستقبل ، والحال ثم لم تضع للحال لفظا مخصوصا حتى لزم استعمال المستقبل أو اسم الفاعل فيها ، فتقول : رأيته يضرب أو ضاربا ثم كما عقلت الألوان عقلت الروائح ثم لم تضع للروائح أسامي حتى لزم تعريفها بالإضافة فيقال : ريح المسك ، وريح العود ، ولا يقال : لون الدم ، ولون الزعفران بل أصفر أو أحمر .

              الرابع : أنا لا نسلم أنهم لم يضعوا للعموم لفظا كما لا نسلم أنهم لم يضعوا للعين الباصرة لفظا ، وإن كان العين مشتركا بين أشياء لم يخرج عن كونه موضوعا له ، وإن لم يكن وقفا عليه بل صالحا له ولغيره وكذلك صيغ الجموع مشتركة بين العموم ، والخصوص .

              الدليل الثاني : أنه يحسن أن تقول : " اقتلوا المشركين إلا زيدا " " ومن دخل الدار فأكرمه إلا الفاسق " " ومن عصاني عاقبته إلا المعتذر " ومعنى الاستثناء إخراج ما لولاه لوجب دخوله تحت اللفظ ، إذ لا يجوز أن تقول " أكرم الناس إلا الثور " . الاعتراض أن للاستثناء فائدتين :

              إحداهما : ما ذكرتموه ، وهو إخراج ما يجب دخوله تحت اللفظ كقوله : علي عشرة إلا ثلاثة "

              والثاني : ما يصلح أن يدخل تحته ، ويتوهم أن يكون مرادا به ، وهذا صالح لأن يدخل تحت اللفظ والاستثناء لقطع صلاحيته لا لقطع وجوبه بخلاف الثور ، فإن لفظ الناس لا يصلح لإرادته .

              الدليل الثالث : أن تأكيد الشيء ينبغي أن يكون موافقا لمعناه ، ومطابقا له ، وتأكيد الخصوص غير تأكيد العموم ، إذ يقال : اضرب زيدا نفسه ، واضرب الرجال أجمعين أكتعين ، ولا يقال : اضرب زيدا كلهم . الاعتراض أن الخصم يسلم أن لفظ الجمع يتناول قوما ، وهو أقل الجمع فما زاد ، ويجوز أن يقال : اضرب القوم كلهم لأن للقوم كلية ، وجزئية ، أما زيد ، والواحد المعين ليس له بعض ، فليس فيه كل وكما أن لفظ العموم لا يتعين مبلغ المراد منه بعد مجاوزة أقل الجمع فكذلك لفظ المشركين ، والمؤمنين ، والكلام في أنه لاستغراق الجنس أو لأقل الجمع أو لعدد بين الدرجتين وكيفما كان فلفظ الكلية لائق به .

              فإن قيل : فإذا قال : " أكرم الناس أكتعين أجمعين كلهم وكافتهم ينبغي أن يدخل هذا على الاستغراق ثم يكون [ ص: 228 ] الدال هو المؤكد دون التأكيد ، فإن التأكيد تابع ، وإنما يؤكد بالاستغراق ما يدل على استغراق الجماعة الذين أرادهم بلفظ الناس . قلنا : لا يشعر بالاستغراق كما لو قال : أكرم الفرقة ، والطائفة كلهم وكافتهم ، وجملتهم لم يتغير به مفهوم لفظ الفرقة ، ولم يتعين للأكثر ، بل نقول : لو كان لفظ الناس يدل على الاستغراق لم يحسن أن يقول " كافتهم ، وجملتهم " فإنما تذكر هذه الزيادة لمزيد فائدة فهو مشعر بنقيض غرضهم .

              الدليل الرابع : أن صيغ العموم باطل أن تكون لأقل الجمع خاصة كما سيأتي ، وباطل أن تكون مشتركا إذ يبقى مجهولا ، ولا يفهم إلا بقرينة ، وتلك القرينة لفظ أو معنى فإن كان لفظا فالنزاع في ذلك اللفظ قائم ، فإن الخلاف في أنه هل وضع العرب صيغة تدل على الاستغراق أم لا ؟ وإن كان معنى فالمعنى تابع للفظ فكيف تزيد دلالته على اللفظ ؟ الاعتراض أن قصد الاستغراق يعلم بعلم ضروري يحصل عن قرائن أحوال ، ورموز ، وإشارات ، وحركات من المتكلم ، وتغيرات في وجهه ، وأمور معلومة من عادته ، ومقاصده وقرائن مختلفة لا يمكن حصرها في جنس ، ولا ضبطها بوصف ، بل هي كالقرائن التي يعلم بها خجل الخجل ، ووجل الوجل ، وجبن الجبان وكما يعلم قصد المتكلم إذا قال : السلام عليكم أنه يريد التحية أو الاستهزاء ، واللهو ، ومن جملة القرائن فعل المتكلم ، فإنه إذا قال على المائدة : هات الماء فهم أنه يريد الماء العذب البارد دون الحار الملح . وقد تكون دليل العقل ، كعموم قوله تعالى : { وهو بكل شيء عليم } { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها } ، وخصوص قوله تعالى : ( خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل ) إذ لا يدخل فيه ذاته وصفاته ، ومن جملته تكرير الألفاظ المؤكدة ، كقوله : " اضرب الجناة ، وأكرم المؤمنين كافتهم صغيرهم وكبيرهم شيخهم ، وشابهم ذكرهم ، وأنثاهم كيف كانوا على أي وجه وصورة كانوا ، ولا تغادر منهم أحدا بسبب من الأسباب ، ووجه من الوجوه " ولا يزال يؤكد حتى يحصل علم ضروري بمراده . أما قولهم : ما ليس بلفظ فهو تابع للفظ ، فهو فاسد فمن سلم أن حركة المتكلم ، وأخلاقه ، وعادته ، وأفعاله ، وتغير لونه ، وتقطيب وجهه وجبينه ، وحركة رأسه ، وتقليب عينيه تابع للفظه بل هذه أدلة مستقلة يفيد اقتران جملة منها علوما ضرورية .

              فإن قيل : فبم عرفت الأمة عموم ألفاظ الكتاب ، والسنة ، وإن لم يفهموه من اللفظ ؟ وبم عرف الرسول من جبريل من الله تعالى حتى عمموا الأحكام ؟ قلنا : أما الصحابة رضوان الله عليهم فقد عرفوه بقرائن أحوال النبي صلى الله عليه وسلم ، وتكريراته ، وعادته المتكررة ، وعلم التابعون بقرائن أحوال الصحابة ، وإشاراتهم ، ورموزهم ، وتكريراتهم المختلفة ، وأما جبريل عليه السلام ، فإن سمع من الله بغير واسطة فالله تعالى يخلق له العلم الضروري بما يريده بالخطاب بكلامه المخالف لأجناس كلام الخلق ، وإن رآه جبريل في اللوح المحفوظ فبأن يراه مكتوبا بلغة ملكية ، ودلالة قطعية لا احتمال فيها .

              الدليل الخامس : وهو عمدتهم : إجماع الصحابة فإنهم ، وأهل اللغة بأجمعهم أجروا ألفاظ الكتاب ، والسنة على العموم إلا ما دل الدليل على تخصيصه ، وإنهم كانوا يطلبون دليل الخصوص لا دليل العموم فعملوا بقول الله تعالى : { يوصيكم الله في أولادكم } [ ص: 229 ] واستدلوا به على إرث فاطمة رضي الله عنها ، حتى نقل أبو بكر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم { : نحن معاشر الأنبياء لا نورث } وقوله : { الزانية والزاني } ، و { والسارق والسارقة } { ومن قتل مظلوما } { وذروا ما بقي من الربا } { ولا تقتلوا أنفسكم } ، و { لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } ، " و " { لا وصية لوارث } ، " و " { لا تنكح المرأة على عمتها ، وخالتها } " و " { من ألقى سلاحه فهو آمن } " و " { لا يرث القاتل } " و " { لا يقتل والد بولده } إلى غير ذلك مما لا يحصى ، ويدل عليه أنه لما نزل قوله تعالى : { لا يستوي القاعدون من المؤمنين } الآية ، قال ابن أم مكتوم ما قال وكان ضريرا ، فنزل قوله تعالى { غير أولي الضرر } فشمل الضرير ، وغيره عموم لفظ المؤمنين ، ولما نزل قوله تعالى : { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون } قال بعض اليهود أنا أخصم لكم محمدا فجاءه وقال : قد عبدت الملائكة ، وعبد المسيح فيجب أن يكونوا من حصب جهنم . فأنزل الله عز وجل : { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون } تنبيها على التخصيص ، ولم ينكر النبي عليه السلام ، والصحابة رضي الله عنهم تعلقه بالعموم ، وما قالوا له : لم استدللت بلفظ مشترك مجمل ، ولما نزل قوله تعالى { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم } قالت الصحابة : فأينا لم يظلم ؟ فبين أنه إنما أراد ظلم النفاق ، والكفر ، واحتج عمر رضي الله عنه على أبي بكر الصديق رضي الله عنه بقوله : عليه السلام : { أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله } فدفعه أبو بكر بقوله : { إلا بحقها } ، ولم ينكر عليه التعلق بالعموم ، وهذا ، وأمثاله لا تنحصر حكايته . الاعتراض من وجهين :

              أحدهما : أن هذا إن صح من بعض الأمة فلا يصح من جميعهم فلا يبعد من بعض الأمة اعتقاد العموم فإنه الأسبق إلى أكثر الأفهام ، ولا يسلم صحة ذلك على كافة الصحابة .

              الثاني : أنه لو نقل ما ذكروه عن جملة الصحابة فلم ينقل عنهم قولهم : على التواتر إنا حكمنا في هذه المسائل بمجرد العموم لأجل اللفظ من غير التفات إلى قرينة ، فلعل بعضهم قضى باللفظ مع القرينة المسوية بين المراد باللفظ ، وبين بقية المسميات لعلمه بأنه لا مدخل في التأثير للفارق بين محل القطع ، ومحل الشك ، والخلاف راجع إلى أن العموم متمسك به بشرط انتفاء قرينة مخصصة أو بشرط اقتران قرينة مسوية بين المسميات ، ولم يصرح الصحابة بحقيقة هذه المسألة ، ومجرى الخلاف فيها ، وأنه متمسك به بشرط انتفاء المخصص لا بشرط وجود القرينة المسوية شبه أرباب الخصوص ذهب قوم إلى أن لفظ الفقراء ، والمساكين ، والمشركين ينزل على أقل الجمع واستدلوا بأنه القدر المستيقن دخوله تحت اللفظ ، والباقي مشكوك فيه ، ولا سبيل إلى إثبات حكم بالشك ، وهذا استدلال فاسد لأن كون هذا القدر مستيقنا لا يدل على كونه مجازا في الزيادة ، والخلاف . في أنه لو أريد به الزيادة لكان حقيقة أو مجازا فإن الثلاثة مستيقنة من لفظ العشرة ، ولا يوجب مجازا في الباقي ، وكون ارتفاع الحرج معلوما من صيغة الأمر لا يوجب كونه مجازا في الوجوب ، والندب وكون الواحد مستيقنا من لفظ الناس [ ص: 230 ] لا يوجب كونه مجازا في الباقي وكون الندب مستيقنا من الأمر لا يوجب كونه مجازا في الوجوب وكون الفعلة الواحدة مستيقنة في الأمر لا يوجب كونه مجازا في التكرار وكون البدار معلوما في الأمر لا يوجب كونه مجازا في التراخي ثم نقول : هذا متناقض لأن قولهم : إن الثلاثة هو المفهوم فقط يناقض قولهم : الباقي مشكوك لأنه إن كان هو المفهوم فقط فالباقي غير داخل قطعا ، وإن كانوا شاكين في الباقي فقد شكوا في نفس المسألة ، فإن الخلاف في الباقي ، وأخطئوا في قولهم إن الثلاثة مفهومه فقط شبه أرباب الوقف : قد ذهب القاضي ، والأشعري وجماعة من المتكلمين إلى الوقف ، ولهم شبه ثلاث :

              الأولى : أن كون هذه الصيغ موضوعة للعموم لا يخلو إما أن تعرف بعقل أو نقل ، والنقل إما نقل عن أهل اللغة أو نقل عن الشارع وكل واحد إما آحاد ، وإما تواتر ، والآحاد لا حجة فيها ، والتواتر لا يمكن دعواه فإنه لو كان لأفاد علما ضروريا ، والعقل لا مدخل له في اللغات ، وهلم جرا إلى تمام الدليل الذي سقناه في بيان أن صيغة الأمر مترددة بين الإيجاب ، والندب . الاعتراض أن هذا مطالبة بالدليل ، وليس بدليل ، ومسلم أنه إن لم يدل دليل فلا سبيل إلى القول به ، وسنذكر وجه الدليل عليه إن شاء الله .

              الثانية : أنا لما رأينا العرب تستعمل لفظ العين في مسمياته ، ولفظ اللون في السواد ، والبياض ، والحمرة استعمالا واحدا متشابها قضينا بأنه مشترك ، فمن ادعى أنه حقيقة في واحد ، ومجاز في الآخر فهو متحكم وكذلك رأيناهم يستعملون هذه الصيغ للعموم ، والخصوص جميعا ، بل استعمالهم لها في الخصوص أكثر ، فقلما وجد في الكتاب ، والسنة ، والكلمات المطلقة في المحاورات ما لا يتطرق إليه التخصيص ، فمن زعم أنه مجاز في الخصوص حقيقة في العموم كان كمن قال : هو حقيقة في الخصوص مجاز في العموم ، والقولان متقابلان فيجب تدافعهما والاعتراف بالاشتراك . الاعتراض أن هذا أيضا يرجع إلى المطالبة بالدليل وليس بدليل ; لأن العرب تستعمل المجاز والحقيقة كما تستعمل اللفظ المشترك ، ولم تقيموا دليلا على أن هذا ليس من قبيل المجاز ، والحقيقة بل طالبتم بالدليل على أن هذا ليس من المشترك .

              الشبهة الثالثة : قولهم : إنه كما يحسن الاستفهام في قول " افعل " أنه للوجوب أو الندب فيحسن الاستفهام في صيغ الجمع أنه أريد به البعض أو الكل ، فإنه إذا قال السيد لعبده من أخذ مالي فاقتله " يحسن أن يقول : " وإن كان أباك أو ، ولدك ؟ " فيقول : لا أو نعم ، ويقول : من أطاعني فأكرمه " فيقول : " وإن كان كافرا أو فاسقا ؟ " فيقول : لا أو نعم ، فكل ذلك مما يحسن . فلو قال " اقتل كل مشرك فيقول : والمؤمن أيضا أقتله أم لا فلا يحسن هذا الاستفهام لظهور التجوز به عن الخصوص قلنا : المجاز إذا كثر استعماله كان للمستفهم الاحتياط في طلبه أو يحسن إذا عرف من عادة المتكلم أنه يهين الفاسق ، والكافر ، وإن أطاعه ، ويسامح الأب [ ص: 231 ] في بذل المال ، والقرينة تشهد للخصوص ، واللفظ يشهد للعموم ، ويتعارض ما يورث الشك فيحسن الاستفهام .

              بيان الطريق المختار عندنا في إثبات العموم :

              اعلم أن هذا النظر لا يختص بلغة العرب بل هو جار في جميع اللغات ; لأن صيغ العموم محتاج إليها في جميع اللغات فيبعد أن يغفل عنها جميع أصناف الخلق فلا يضعونها مع الحاجة إليها . ويدل على وضعها توجه الاعتراض على من عصى الأمر العام ، وسقوط الاعتراض عمن أطاع ، ولزوم النقض ، والخلف عن الخبر العام وجواز بناء الاستحلال على المحللات العامة . فهذه أمور أربعة تدل على الغرض ، وبيانها أن السيد إذا قال لعبده : من دخل اليوم داري فأعطه درهما أو رغيفا ، فأعطى كل داخل لم يكن للسيد أن يعترض عليه ; فإن عاتبه في إعطائه واحدا من الداخلين مثلا وقال : لم أعطيت هذا من جملتهم ، وهو قصير ، وإنما أردت الطوال ، أو هو أسود ، وإنما أردت البيض ؟ فللعبد أن يقول : ما أمرتني بإعطاء الطوال ، ولا البيض بل بإعطاء من دخل ، وهذا داخل فالعقلاء إذا سمعوا هذا الكلام في اللغات كلها رأوا اعتراض السيد ساقطا ، وعذر العبد متوجها وقالوا للسيد : أنت أمرته بإعطاء من دخل ، وهذا قد دخل ، ولو أنه أعطى الجميع إلا واحدا فعاتبه السيد وقال : لم لم تعطه ؟ فقال العبد : لأن هذا طويل أو أبيض وكان لفظك عاما فقلت : لعلك أردت القصار أو السود استوجب التأديب بهذا الكلام وقيل له : ما لك وللنظر إلى الطول ، واللون وقد أمرت بإعطاء الداخل فهذا معنى سقوط الاعتراض عن المطيع ، وتوجهه على العاصي .

              وأما النقض على الخبر فإذا قال : ما رأيت اليوم أحدا وكان قد رأى جماعة كان كلامه خلفا منقوضا وكذبا ، فإن أردت أحدا غير تلك الجماعة كان مستنكرا ، وهذه كصيغ الجميع فإن النكرة في النفي تعم عند القائلين بالعموم ولذلك قال الله تعالى : { إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس } ، وإنما أورد هذا نقضا على كلامهم ، فإن لم يكن عاما فلم ورد النقض عليهم ؟ فإن هم أرادوا غير موسى فلم لزم دخول موسى تحت اسم البشر ؟ ، وأما الاستحلال بالعموم فإذا قال الرجل : أعتقت عبيدي ، وإمائي ، ومات عقيبه ، جاز لمن سمعه أن يزوج من أي عبيده شاء ، ويتزوج من أي جواريه شاء بغير رضا الورثة ، وإذا قال : العبيد الذين هم في يدي ملك فلان كان ذلك إقرارا محكوما به في الجميع ، وبناء الأحكام على أمثال هذه العمومات في سائر اللغات لا ينحصر ، ولا خلاف في أنه لو قال : أنفق على عبدي غانم أو على زوجتي زينب ، أو قال : غانم حر ، وزينب طالق ، وله عبدان اسمهما غانم ، وزوجتان اسمهما زينب فتجب المراجعة والاستفهام لأنه أتى باسم مشترك غير مفهوم .

              فإن كان لفظ العموم فيما وراء أقل الجمع مشتركا فينبغي أن يجب التوقف على العبد إذا أعطى ثلاثة ممن دخل الدار ، وينبغي أن يراجع في الباقي ، وليس كذلك عند العقلاء كلهم في اللغات كلها . فإن قيل إن سلم لكم ما ذكرتموه فإنما يسلم بسبب القرائن لا بمجرد اللفظ ، فإن عري عن القرائن فلا يسلم . قلنا : كل قرينة قدرتموها فعلينا أن نقدر نفيها ، ويبقى حكم الاعتراض ، والنقض كما سبق ، فإن غايتهم أن يقولوا إذا قال أنفق على عبيدي وجواري في غيبتي ، كان [ ص: 232 ] مطيعا بالإنقاق على الجميع ، لأجل قرينة الحاجة إلى النفقة ، أو أعط من دخل داري ، فهو بقرينة إكرام الزائر فهذا ، وما يجري مجراه إذا قدروه فسبيلنا أن نقدر أضدادها ، فإنه لو قال : لا تنفق على عبيدي ، وزوجاتي كان عاصيا بالإنفاق مطيعا بالتضييع ، ولو قال اضربهم لم يكن عليه أن يقتصر على ثلاثة بل إذا ضرب جميعهم عد مطيعا ، ولو قال : من دخل داري ، فخذ منه شيئا بقي العموم بل نقدر ما لا غرض في نفيه ، وإثباته ، فلو قال : من قال من عبيدي : جيم فقل له : صاد ، ومن قال من جواري : ألف فأعتقها ، فامتثل أو عصى كان ما ذكرناه من سقوط الاعتراض ، وتوجهه جاريا ، بل نعلم قطعا أنه لو ورد من صادق عرف صدقه بالمعجزة ، ولم يعش إلا ساعة من نهار وقال في تلك الساعة : من سرق فاقطعوه ، ومن زنى فاضربوه ، والصلاة واجبة على كل عاقل بالغ وكذلك الزكاة ، ومن قتل مسلما فعليه القصاص ، ومن كان له ولد فعليه النفقة ، ومات عقيب هذا الكلام ، ولم نعرف له عادة ، ولا أدركنا من أحواله قرينة ، ولا صدر منه سوى هذه الألفاظ إشارة ، ورمزا ، ولا ظهر في وجهه حالة ; لكنا نحكم بهذه الألفاظ ، ونتبعها ، ولا يقال : جاء بألفاظ مشتركة مجملة ، ومات قبل أن يبينها فلا يمكن العمل بها .

              ولو قدروا قرينة في نطقه وصورة حركته عند كلامه فليقدر أنه كتب في كتاب ، وسلمه إلينا وقال : اعملوا بما فيه ، ومات ، وإن قدروا قرينة مناسبة بين هذه الجنايات ، والعقوبات فنقدر أمورا لا مناسبة فيها كحروف المعجم ; فإذا قال من قال لكم : ألف فقولوا : جيم ، وأمثاله ، فيكون جميع ذلك مفهوما معمولا به وكل قرينة قدروها فنقدر نفيها ، ويبقى ما ذكرنا بمجرد اللفظ ، وبهذا تبين أن الصحابة إنما تمسكوا بالعمومات بمجرد اللفظ ، وانتفاء القرائن المخصصة لا أنهم طلبوا قرينة معممة ، وتسوية بين أقل الجمع ، والزيادة . فإن قيل إذا قال : من دخل داري فأعطه ، فيحسن أن يقال : ولو كان كافرا فاسقا ؟ فربما يقول : نعم ، وربما يقول : لا ، فلو عم اللفظ فلم حسن الاستفهام ؟ قلنا : لا يحسن أن يقال : وإن كان طويلا أو أبيض أو محترفا ، وما جرى مجراه ، وإنما حسن السؤال عن الفاسق لأنه يفهم من الإعطاء الإكرام ، ويعلم من عادته أنه لا يكرم الفاسق أو علم من عادة الناس ذلك فتوهم أنه يقتدي بالناس فيه ، فلتوهم هذه القرينة المخصصة حسن منه السؤال ; ولذلك لم يحسن في سائر الصفات ولذلك لو لم يراجع ، وأعطى الفاسق ، وعاتبه السيد فله أن يقول : أمرتني بإعطاء كل داخل ، وهذا قد دخل ، فيقول السيد : كان ينبغي أن تعرف بعقلك أن هذا إكرام ، والفاسق لا يكرم فيتمسك بقرينة مخصصة ، فربما يكون مقبولا ، فلو لم يقل هذا ، ولكن قال : كان لفظي مشتركا غير مفهوم فلم أقدمت قبل السؤال ؟ لم يكن هذا العتاب متوجها قطعا .

              فإن قيل : فقد فرضتم الكلام في أداة الشرط وقد قال بعمومه من أنكر سائر العمومات ، فما الدليل في سائر الصور ؟ قلنا : هذا يجري في من " " وما " " ومتى " " وحيث " " وأي وقت " " وأي شخص " ، ونظائره ، ويجري أيضا في النكرة في النفي كقوله : ما رأيت أحدا مثل قوله تعالى : { ما أنزل الله على بشر من شيء } وكذلك في قولهم كل وجميع ، وأجمعون بل هو أظهر ، وهو النوع الثالث وكذلك في النوع الرابع ، وهي صيغ الجموع كالفقراء ، والمساكين ، وهذا أيضا جار فيه ، فإنه إذا قال لعبده : أعط الفقراء واقتل المشركين ، واقتصر على هذا ، وانتفت القرائن [ ص: 233 ] جرى حكم الطاعة ، والعصيان ، وتوجه الاعتراض ، وسقوطه كما سبق ، وهو جار في كل جمع إلا في بعض الجموع المبنية للتقليل كما ورد على ، وزن الأفعال كالأثواب والأفعلة كالأرغفة ، والأفعل كالأكلب ، والفعلة كالصبية وقد قال سيبويه : جميع هذا للتقليل ، وما عداه للتكثير وقيل أيضا جمع السلامة للتقليل ، وهذا بعيد ، لا سيما فيما ليس فيه جمع مبني للتكثير وجمع القلة أيضا لا يتقدر المراد منه بل يختلف ذلك بالقرائن ، والأحوال ; إلا أنه ليس موضوعا للاستغراق .

              ، وأما النوع الخامس وهو الاسم المفرد إذا دخل عليه الألف ، واللام فهذا فيه نظر وقد اختلفوا فيه ، والصحيح التفصيل ، وهو أنه ينقسم إلى ما يتميز فيه لفظ الواحد عن الجنس بالهاء كالتمرة ، والتمر ، والبرة ، والبر فإن عري عن الهاء فهو للاستغراق ، فقوله : : { لا تبيعوا البر بالبر ، ولا التمر بالتمر ، } يعم كل بر ، وتمر ، وما لا يتميز بالهاء ينقسم إلى ما يتشخص ، ويتعدد كالدينار ، والرجل ، حتى يقال : دينار واحد ، ورجل واحد ، وإلى ما لا يتشخص واحد منه كالذهب إذ لا يقال : ذهب واحد فهذا لاستغراق الجنس ، أما الدينار ، والرجل ، فيشبه أن يكون للواحد ، والألف ، واللام فيه للتعريف فقط وقولهم : الدينار أفضل من الدرهم يعرف بقرينة التسعير ، ويحتمل أن يقال : هو دليل على الاستغراق ، فإنه لو قال : { لا يقتل المسلم بالكافر ، ولا يقتل الرجل بالمرأة } فهم ذلك في الجميع ، فإنه لو قدر حيث لا مناسبة فلا يخلو عن الدلالة على الجنس

              التالي السابق


              الخدمات العلمية