الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                            صفحة جزء
                                                            باب لا حد في النظر والمنطق حتى يصدقه الفرج عن همام عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب على ابن آدم نصيب من الزنى أدرك لا محالة فالعين زنيتها النظر ويصدقها الأعراض واللسان زنيته المنطق ، والقلب التمني ، والفرج يصدق ما ثم ويكذب رواه مسلم وزاد الأذنان زناهما الاستماع ، واليد زناها البطش ، والرجل زناها الخطا : ولابن حبان من حديث ابن عباس واليد زناها اللمس : ولأبي داود والفم يزني وزناه القبل : .

                                                            التالي السابق


                                                            باب لا حد في النظر والمنطق حتى يصدق الفرج . عن همام عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب على ابن آدم نصيب من الزنى أدرك ذلك لا محالة ، فالعين زنيتها النظر ويصدقها الأعراض واللسان زنيته المنطق والقلب التمني ، والفرج يصدق ما ثم ويكذب رواه مسلم (فيه) : [ ص: 19 ] فوائد :

                                                            (الأولى) : رواه مسلم من طريق ابن خالد عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة بمعناه وزاد فيه والأذنان زناهما الاستماع واليد زناها البطش والرجل زناها الخطى ورواه أبو داود من طريق حماد بن سلمة عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة وزاد فيه والفم يزني فزناه القبل : وأخرجه الشيخان وأبو داود النسائي عن ابن عباس قال " ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ، فذكر نحو روايتنا بدون زيادة مسلم المتقدمة

                                                            (الثانية) : قوله " كتب على ابن آدم نصيب من الزنى أي قدر عليه نصيب من الزنى فهو مدرك ذلك النصيب ومرتكب له بلا شك ؛ لأن الأمور المقدرة لا بد من وقوعها فمنهم من يكون زناه حقيقيا بإدخال الفرج في الفرج الحرام ومنهم من يكون زناه مجازيا إما بالنظر إلى ما يحرم عليه النظر إليه وإما بمحادثة الأجنبية في ذلك المعنى وإما بالسماع إلى حديثها بشهوة وإما بلمسها بشهوة وإما بالمشي إلى الفاحشة وإما بالتقبيل المحرم وإما بالتمني بالقلب والتصميم على فعل الفاحشة فكل هذه الأمور مقدمات للزنا ويطلق عليها اسم الزنى مجازا وعلاقة المجاز فيها لزوم التقييد فإنه لا يصح أن يقال في صاحب النظر المحرم إنه زان مطلقا بلا قيد .

                                                            (الثالثة) : وفيه رد صريح على القدرية وبيان أن أفعال العباد ليست أنفا بل هي مقدرة بتقدير العزيز العليم ، وليس تقديرها حجة للعبد بل هو معاقب على كسبه ومثاب عليه .

                                                            (الرابعة) : قوله " أدرك " أي أدرك ذلك الذي كتب عليه وواقعه وقوله " لا محالة بفتح الميم وبالحاء المهملة أي لا بد ، ومن ذلك قول قس بن ساعدة

                                                            أيقنـــــــت أنـــــــي لا محـــــــا لـــة حـــيث صـــار القــوم صــائر

                                                            قال في النهاية أي لا حيلة ويجوز أن يكون من الحول القوة أو الحركة وهي مفعلة منهما وأكثر ما يستعمل لا محالة بمعنى اليقين والحقيقة أو بمعنى لا بد [ ص: 20 ] والميم زائدة انتهى .

                                                            وقال صاحب الصحاح المحالة الحيلة ثم قال وقولهم لا محالة أي لا بد يقال الموت آت لا محالة وقال في المحكم الحول والحيل والحول والحيلة والحويل والمحالة والاحتيال والتحول والتحيل كل ذلك الحذق وجودة النظر والقدرة على دقة التصرف ثم قال : ولا محالة من ذلك أي لا بد وقال في المشارق : قوله " لا محالة ولا حول " الحول الحركة وقال ابن الأنباري المحالة والحول الحيلة .



                                                            (الخامسة) : قوله فالعين زنيتها النظر بكسر الزاي وإسكان النون أي هيئة زناها للسبب كهيئة الزنى الحقيقي الذي هو إيلاج الفرج في الفرج المحرم وإنما هيئته النظر ، والفعلة بالكسر للهيئة ولو روي زنيتها بالفتح على المرة لصح ولكن الكسر على الهيئة أظهر وهو المروي . قوله (ويصدقها الأعراض) الظاهر أن معناه يصدق العين الأعراض أي يجعلها ذات صدق فإذا أعرضت بعد نظرها وغضت عنه النظر المحرم فهي ذات صدق ماشية على الاستقامة وتلك النظرة الأولى إن كانت عن غير قصد فلا إثم بها وهي نظرة الفجأة وإن كانت عن قصد فقد تابت ورجعت عنها وفيه إشارة إلى أنه لا ينبغي النظر مرة بعد أخرى بل ينبغي الكف بحسب الإمكان وفي صحيح مسلم وغيره عن جرير رضي الله عنه سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة فأمرني أن أصرف بصري : .

                                                            وفي سنن أبي داود والترمذي عن بريدة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الآخرة : وقد ظهر بما قررناه أن معنى التصديق هنا غير معناه في قوله بعده والفرج يصدق ما ثم ويكذب فإن معنى التصديق هناك تحقيق للزنى بالفرج ومعنى التكذيب أن لا يحققه بالإيلاج فصارت تلك النظرة كأنها كاذبة لم يتصل بها مقصودها فالتصديق هنا محمود والتصديق هناك مذموم ولم أر من تعرض للكلام على هذه اللفظة الأولى .



                                                            (السابعة) : قد يستدل به على تحريم تمني الزنا بالقلب ويعارضه ما صح وثبت من أن الخواطر والوساوس معفو عنها فلا مؤاخذة بها فيحمل هذا الحديث على العزم على ذلك والجزم به فإن المحققين على المؤاخذة بالعزم المستقر لقوله عليه الصلاة والسلام القاتل والمقتول في النار قالوا يا رسول الله هذا القاتل . [ ص: 21 ] فما بال المقتول قال إنه كان حريصا على قتل أخيه : أو يحمل هذا الحديث على تمني حل الزنا فإن ذلك حرام ؛ لأنه لم يحل في ملة من الملل بل حكى أصحابنا عن الحنفية الكفر بذلك لكن قال النووي من أصحابنا الصواب أنه لا يكفر إذا لم يكن نية .



                                                            (الثامنة) : قد يستدل بقوله والأذنان زناهما الاستماع : على أن صوت المرأة عورة وقد يقال إنما المراد إذا فعل ذلك بشهوة ولا شك أن الاستماع إلى حديث الأجنبية بشهوة حرام والأصح عند أصحابنا أن صوتها ليس بعورة .



                                                            (التاسعة) : قوله (واليد زناها البطش) : ليس معناه أن كل بطش محرم يطلق عليه زنى إنما ذلك فيما هو من مقدمات الزنا ويفسره قوله في رواية ابن حبان في صحيحه من حديث ابن عباس واليد زناها اللمس : فالمراد بطش مخصوص وقوله في الفم زناه القبل : جمع قبلة .



                                                            (العاشرة) : فيه أن النظر المحرم وإن سمي زنى مجازا لا يترتب عليه حكم الزنا من إيجاب حد ولا غيره وإنما يجب الحد في الزنا الحقيقي بل لا يؤاخذ به إذا لم يقع مرتكبه في الكبائر عفوا وكرما قال الله تعالى إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما فجعل الصغائر مكفرة باجتناب الكبائر وقال تعالى الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم وهو على المشهور ما يلم به الإنسان من صغائر الذنوب التي لا يكاد يسلم منها إلا من عصمه الله عز وجل ، وهذا معنى قول ابن عباس رضي الله عنهما " ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قاله أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أراد تفسير هذه الآية بهذا الحديث وأن النظر والنطق وشبههما هو المراد في الآية الكريمة وكما أنه لا حد في هذه المقدمات لا تعزير فيها إذا صدرت من ولي الله تعالى كما ذكر الشيخ عز الدين بن عبد السلام في قواعده الكبرى أنه لا يجوز للحكام تعزير بعض الأولياء فيما يصدر منه من الصغيرة بل تقال عثرته وتستر زلته قال وقد جهل أكثر الناس فزعموا أن الولاية تسقط بالصغيرة .



                                                            (الحادية عشرة) : قال الخطابي قال الشافعي إذا قال لرجل زنت يدك كان قذفا كما يقول زنى فرجه وقال بعض أصحابه يجب أن لا يكون هذا قذفا واحتج بهذا الحديث قال وهو ظاهر كما .

                                                            [ ص: 22 ] تقول زنت عينك ولم يختلفوا أنه ليس بقذف قال الخطابي ويشبه أن يكون الشافعي إنما جعله قذفا ؛ لأن الأفعال من فاعليها تضاف إلى الأيدي كقوله عز وجل وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير وقوله ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد وليس ذلك بمقصور على جناية الأيدي دون غيرها من الأعضاء فكأنه إذا جعل اليد زانية صار الزنا وصفا للذات ؛ لأن الزنا لا يتبعض فلا يجوز أن يحمل على معنى الكناية في قوله ؛ لأن الكناية عنده ليست قذفا انتهى .

                                                            وهو نقل غريب والمشهور عند أصحابنا الشافعية الجزم بأن ذلك ليس قذفا ، ولم يفرقوا بين نسبة الزنا لليد والعين والله أعلم .



                                                            (الثانية عشرة) : قال الخطابي وفي قوله والفرج يصدق ذلك ويكذبه : استدلال لمن جعل الملوط زانيا يحد أو يرجم كسائر الزناة وذلك أنه قد واقع الفرج بفرجه وهو صورة الزنا حقيقة .

                                                            (الثالثة عشرة) : قوله (يصدق ما ثم) : بفتح الثاء المثلثة أي ما هناك من مقدمات الزنا أتى بإشارة البعيد دون القريب لاستقذار الفواحش وتبعيدها عن النفس ولا ينبغي التعبير عنها إلا بما يعبر بها عن البعيد حسا والله أعلم .




                                                            الخدمات العلمية