الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ثم إن أول هذه الآيات ربما يوهم نصرة مذهب الاعتزال لكن آخرها مشتمل على الوجوه الكثيرة كما قال الإمام الدالة على نصرة مذهب أهل الحق، ولعل الأمر غني عن البيان ولله تعالى الحمد على ذلك وأقسموا بالله شروع في بيان فن آخر من أباطيلهم وهو إنكارهم البعث، وهو على ما في الكشاف وغيره عطف على قوله تعالى: وقال الذين أشركوا قيل: ولتضمن الأول إنكار التوحيد وهذا إنكار البعث وهما أمران عظيمان من الكفر والجهل حسن العطف بينهما، والضمير لأهل مكة أيضا أي حلفوا بالله جهد أيمانهم مصدر منصوب على الحال أي جاهدين في أيمانهم لا يبعث الله من يموت وهو مبني على أن الميت يعدم ويفنى وأن البعث إعادة له وأنه يستحيل إعادة المعدوم، وقد ذهب إلى هذه الاستحالة الفلاسفة ولم يوافقهم في دعوى ذلك أحد من المتكلمين إلا الكرامية وأبو الحسين البصري من المعتزلة، واحتجوا عليها بما رده المحققون، وبعضهم ادعى الضرورة في ذلك وأن ما يذكر في بيانه تنبيهات عليه، فقد نقل الإمام عن الشيخ أبي علي بن سينا أنه قال: كل من رجع إلى فطرته السليمة ورفض عن نفسه الميل والتعصب شهد عقله الصريح بأن إعادة المعدوم بعينه ممتنعة وفي قسم هؤلاء الكفار على عدم البعث إشارة كما قال في التفسير إلى أنهم يدعون العلم الضروري بذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      وأنت تعلم أنه إذا جوز إعادة المعدوم بعينه كما هو رأي جمهور المتكلمين فلا إشكال في البعث أصلا. وأما إن قلنا بعدم جواز الإعادة لقيام القاطع على ذلك فقد قيل: نلتزم القول بعدم انعدام شيء من الأبدان حتى يلزم في البعث إعادة المعدوم وإنما عرض لها التفرق ويعرض لها في البعث الاجتماع فلا إعادة لمعدوم، وفيه بحث وإن أيد بقصة إبراهيم عليه السلام ومن هنا قال المولى ميرزاجان: لا مخلص إلا بأن يقال ببقاء النفس المجردة وإن البدن المبعوث مثل البدن الذي كان في الدنيا وليس عينه بالشخص ولا ينافي هذا قانون العدالة إذ الفاعل هو النفس ليس إلا والبدن بمنزلة السكين بالنسبة إلى القطع فكما أن الأثر المترتب على القطع من المدح والذم والثواب والعقاب إنما هو للقاطع لا للسكين كذلك الأثر المترتب على أفعال الإنسان إنما هو للنفس وهي المتلذذة والمتألمة تلذذا أو تألما عقليا أو حسيا فليس يلزم خلاف العدالة، وأما الظواهر الدالة على عود ذلك الشخص بعينه فمؤولة لفرض القاطع الدال على الامتناع، وذلك بأن يقال: المراد إعادة مادته مع صورة كانت [ ص: 141 ] أشبه الصور إلى الصورة الأولى فتدبر وسيأتي إن شاء الله تعالى في سورة يس تحقيق هذا المطلب على أتم وجه.

                                                                                                                                                                                                                                      ونقل عن ابن الجوزي وأبي العالية أن هذه الآية نزلت لأن رجلا من المسلمين تقاضى دينا على رجل من المشركين فكان فيما تكلم به المسلم والذي أرجوه بعد الموت فقال المشرك: وإنك لتبعث بعد الموت وأقسم بالله لا يبعث الله من يموت فقص الله تعالى ذلك ورده أبلغ رد بقوله سبحانه: بلى لإيجاب النفي أي بلى يبعثهم ( وعدا ) مصدر مؤكد لما دل عليه ( بلى ) إذ لا معنى له سوى الوعد بالبعث والإخبار عنه، ويسمى نحو هذا مؤكدا لنفسه وجوز أن يكون مصدرا لمحذوف أي وعد ذلك وعدا ( عليه ) صفة ( وعدا ) والمراد وعدا ثابتا عليه إنجازه وإلا فنفس الوعد ليس ثابتا عليه، وثبوت الإنجاز لامتناع الخلف في وعده أو لأن البعث من مقتضيات الحكمة.

                                                                                                                                                                                                                                      حقا صفة أخرى- لوعدا- وهي مؤكدة إن كان بمعنى ثابتا متحققا ومؤسسة إن كان بمعنى غير باطل أو نصب على المصدرية بمحذوف أي حق حقا ولكن أكثر الناس لجهلهم بشؤون الله تعالى من العلم والقدرة والحكمة وغيرها من صفات الكمال وبما يجوز عليه وما لا يجوز وعدم وقوفهم على سر التكوين والغاية القصوى منه وعلى أن البعث مما تقتضيه الحكمة لا ( يعلمون ) أنه تعالى يبعثهم، ونعى عليهم عدم العلم بالبعث دون العلم بعدمه الذي يزعمونه على ما يقتضيه ظاهر قسمهم ليعلم منه نعي ذاك بالطريق.

                                                                                                                                                                                                                                      وجوز أن يكون للإيذان بأن ما عندهم بمعزل عن أن يسمى علما بل هو توهم صرف وجهل محض، وتقدير مفعول ( يعلمون ) ما علمت هو الأنسب بالسياق، وجوز أن يكون التقدير لا يعلمون أنه وعد عليه حق فيكذبونه قائلين: لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين [المؤمنون: 83، النمل: 68]

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية