الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          باب ما جاء في استئمار البكر والثيب

                                                                                                          1107 حدثنا إسحق بن منصور أخبرنا محمد بن يوسف حدثنا الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تنكح الثيب حتى تستأمر ولا تنكح البكر حتى تستأذن وإذنها الصموت قال وفي الباب عن عمر وابن عباس وعائشة والعرس بن عميرة قال أبو عيسى حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح والعمل على هذا عند أهل العلم أن الثيب لا تزوج حتى تستأمر وإن زوجها الأب من غير أن يستأمرها فكرهت ذلك فالنكاح مفسوخ عند عامة أهل العلم واختلف أهل العلم في تزويج الأبكار إذا زوجهن الآباء فرأى أكثر أهل العلم من أهل الكوفة وغيرهم أن الأب إذا زوج البكر وهي بالغة بغير أمرها فلم ترض بتزويج الأب فالنكاح مفسوخ وقال بعض أهل المدينة تزويج الأب على البكر جائز وإن كرهت ذلك وهو قول مالك بن أنس والشافعي وأحمد وإسحق [ ص: 203 ]

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          [ ص: 203 ] قوله : ( لا تنكح ) بصيغة المجهول قوله : ( الثيب ) قال في النهاية : الثيب من ليس ببكر ، وفي رواية الشيخين : " الأيم " بتشديد الياء المكسورة . ( حتى تستأمر ) على البناء للمفعول ، أي : حتى تستأذن صريحا . إذ " الاستئمار " : طلب الأمر ، والأمر لا يكون إلا بالنطق .

                                                                                                          ( ولا تنكح البكر ) المراد بالبكر : البالغة ، إذ لا معنى لاستئذان الصغيرة ؛ لأنها لا تدري ما الإذن ؟ ( حتى تستأذن ) أي : يطلب منها الإذن ( وإذنها الصموت ) أي : السكوت ، يعني : لا حاجة إلى إذن صريح منها ، بل يكتفي بسكوتها لكثرة حيائها ، وفي رواية الشيخين : قالوا : يا رسول الله ، وكيف إذنها ؟ قال : إذنها أن تسكت واختلف في أن السكوت من البكر يقوم مقام الإذن في حق جميع الأولياء ، أو في حق الأب والجد دون غيرهما ، وإلى الأول ذهب الأكثر ، لظاهر الحديث : قوله ( وفي الباب عن عمر ) لينظر من أخرجه ( وابن عباس ) أخرجه الجماعة إلا البخاري . ( وعائشة ) قالت قلت : يا رسول الله ، تستأمر النساء في أبضاعهن ؟ قال : نعم . قلت : إن البكر تستأمر فتستحي فتسكت ؟ فقال : سكاتها إذنها أخرجه الشيخان : ( والعرس ) بضم أوله وسكون الراء . بعدها مهملة ( ابن عميرة ) بفتح العين المهملة ، وكسر الميم وسكون التحتانية ; صحابي . قوله : ( حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح ) وأخرجه الشيخان قوله : ( وأكثر أهل العلم من أهل الكوفة ، وغيرهم أن الأب إذا زوج البكر ، وهي بالغة بغير أمرها فلم ترض بتزويج الأب فالنكاح [ ص: 204 ] مفسوخ ) واحتجوا على ذلك بحديث ابن عباس : أن جارية بكرا أتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت أن أباها زوجها ، وهي كارهة ; فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم رواه أبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، قال ابن القطان في كتابه : حديث ابن عباس هذا حديث صحيح .

                                                                                                          ( وقال بعض أهل المدينة : تزويج الأب على البكر جائز ، وإن كرهت ذلك ، وهو قول مالك بن أنس ، والشافعي ، وأحمد وإسحاق ) وهو قول ابن أبي ليلى والليث ، واحتجوا بحديث ابن عباس الآتي الأيم أحق بنفسها من وليها فإنه دل بمفهومه على أن ولي البكر أحق بها منها ، واحتج بعضهم بحديث أبي موسى مرفوعا تستأمر اليتيمة في نفسها ، فإن سكتت فهو إذنها قال : فقيد ذلك باليتيمة ، فيحمل المطلب عليه ، وفيه نظر ، لحديث ابن عباس بلفظ والبكر يستأذنها أبوها في نفسها رواه مسلم ، وأجاب الشافعي : بأن المؤامرة قد تكون عن استطابة نفس ، ويؤيده حديث ابن عمر رفعه وأمروا النساء في بناتهن رواه أبو داود ، وقال الشافعي : لا خلاف أنه ليس للأم أمر ، لكنه على معنى استطابة النفس ، وقال البيهقي : زيادة ذكر الأب في حديث ابن عباس غير محفوظة ، قال الشافعي : رواها ابن عيينة في حديثه ، وكان ابن عمر والقاسم ، وسالم يزوجون الأبكار لا يستأمروهن ، قال البيهقي : والمحفوظ في حديث ابن عباس : " البكر تستأمر " ورواه صالح بن كيسان بلفظ : " واليتيمة لا تستأمر " ، وكذلك رواه أبو بردة عن أبي موسى ، ومحمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة . فدل على أن المراد بالبكر : اليتيمة ، قال الحافظ بن حجر : وهذا لا يدفع زيادة الثقة الحافظ بلفظ الأب ، ولو قال قائل : " ، بل المراد باليتيمة البكر " لم يدفع ، و " تستأمر " بضم أوله ، يدخل فيه الأب ، وغيره . فلا تعارض بين الروايات ، ويبقى النظر في أن " الاستئمار " هل هو شرط في صحة العقد ، أو مستحب على معنى ، الاستطابة كما قال الشافعي ؟ كل الأمرين محتمل . انتهى . كلام الحافظ .

                                                                                                          قلت : الظاهر أن الاستئمار هو شرط في صحة العقد لا على طريق الاستطابة ; يدل عليه حديث ابن عباس رضي الله عنه : أن جارية بكرا أتت النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكرت : أن أباها زوجها ، وهي كارهة ، فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد تقدم تخريجه ، وهو حديث صحيح ، قال الحافظ في الفتح : ولا معنى للطعن في الحديث ، فإن طرقه تقوي بعضها ببعض . انتهى ، وأجاب البيهقي : بأنه إن ثبت الحديث في البكر ، حمل على أنها زوجت بغير كفء ، قال الحافظ : وهذا الجواب هو المعتمد ، فإنها واقعة عين فلا يثبت الحكم فيها تعميما . قلت : قد تعقب العلامة الأمير اليماني على كلام البيهقي والحافظ في سبل السلام تعقبا حسنا ، حيث قال : كلام هذين الإمامين محاماة على كلام الشافعي ومذهبهم ، وإلا فتأويل البيهقي لا دليل عليه ; فلو [ ص: 205 ] كان كما قال لذكرته المرأة ، بل قالت : إنه زوجها ، وهي كارهة . فالعلة كراهتها ، فعليها علق التخيير ؛ لأنها المذكورة . فكأنه قال صلى الله عليه وسلم : " إذا كنت كارهة فأنت بالخيار " وقول المصنف - يعني :الحافظ ابن حجر - إنها واقعة عين كلام غير صحيح ، بل حكم عام لعموم علته ، فأينما وجدت الكراهة ثبت الحكم ، وقد أخرج النسائي عن عائشة : " أن فتاة دخلت عليها ، فقالت : أبي زوجني من ابن أخيه يرفع في خسيسه ، وأنا كارهة ، قالت : اجلسي حتى يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأخبرته ، فأرسل إلى أبيها فدعاه ، فجعل الأمر إليها . فقالت : يا رسول الله ، قد أجزت ما صنع أبي ، ولكن أردت أن أعلم النساء أن ليس للآباء من الأمر شيء " والظاهر أنها بكر ، ولعلها البكر التي في حديث ابن عباس ، وقد زوجها أبوها كفئا ابن أخيه ، وإن كانت ثيبا فقد صرحت أنه ليس مرادها إلا إعلام النساء أنه ليس للآباء من الأمر شيء ، ولفظ " النساء " عام للثيب والبكر ، وقد قالت هذه عنده صلى الله عليه وسلم فأقرها عليه ، والمراد بنفي الأمر من الآباء : نفي التزويج للكارهة ؛ لأن السياق في ذلك . فلا يقال : هو عام لكل شيء . انتهى ما في السبل .

                                                                                                          قلت : حديث عائشة - الذي أخرجه النسائي - مرسل ; فإنه أخرجه عن عبد الله بن بريدة عن عائشة ; قال البيهقي : هذا مرسل ، ابن بريدة لم يسمع من عائشة . انتهى لكن رواه ابن ماجه متصلا ، وسنده هكذا : حدثنا هناد بن السري حدثنا وكيع عن كهمس بن الحسن عن ابن بريدة عن أبيه ، قال : " جاءت فتاة " إلخ ، بمثل حديث النسائي ، وأخرجه أحمد في مسنده .




                                                                                                          الخدمات العلمية