الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون . لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون . وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين . ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون . لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون . أم أبرموا أمرا فإنا مبرمون . أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون . قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين . سبحان رب السماوات والأرض رب العرش عما يصفون . فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: إن المجرمين يعني الكافرين، لا يفتر أي: لا يخفف عنهم وهم فيه يعني في العذاب مبلسون قال ابن قتيبة : آيسون من رحمة الله . وقد شرحنا هذا في [الأنعام: 44] وما ظلمناهم أي: ما عذبناهم على غير ذنب ولكن كانوا هم الظالمين لأنفسهم بما جنوا عليها . قال الزجاج : والبصريون يقولون: "هم" هاهنا فصل، كذلك يسمونها، ويسميها الكوفيون: العماد .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: ونادوا يا مالك وقرأ علي بن أبي طالب رضى الله عنه، وابن مسعود، وابن يعمر: ["يا مال"] بغير كاف مع كسر اللام . قال الزجاج : وهذا يسميه النحويون: [الترخيم]، ولكني أكرهها لمخالفة المصحف .

                                                                                                                                                                                                                                      قال المفسرون: يدعون مالكا خازن النار فيقولون: ليقض علينا ربك [ ص: 330 ] [أي]: ليمتنا; والمعنى: أنهم توسلوا به ليسأل الله تعالى لهم الموت فيستريحوا من العذاب; فيسكت عن جوابهم مدة، فيها أربعة أقوال . أحدها: أربعون عاما، قاله عبد الله بن عمرو، ومقاتل . والثاني: ثلاثون سنة، قاله أنس . والثالث: ألف سنة، قاله ابن عباس . والرابع: مائة سنة، قاله كعب .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي سكوته عن جوابهم هذه المدة قولان . أحدهما: أنه سكت حتى أوحى الله إليه أن أجبهم، قاله مقاتل . والثاني: لأن بعد ما بين النداء والجواب أخزى لهم وأذل .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الماوردي: فرد عليهم مالك فقال: إنكم ماكثون أي: مقيمون في العذاب .

                                                                                                                                                                                                                                      لقد جئناكم بالحق أي: أرسلنا رسلنا بالتوحيد ولكن أكثركم قال ابن عباس: يريد: كلكم كارهون لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: أم أبرموا أمرا في "أم" قولان . أحدهما: أنها للاستفهام . والثاني: بمعنى "بل" . والإبرام: الإحكام . وفي هذا الأمر ثلاثة أقوال .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها: المكر برسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتلوه أو يخرجوه حين اجتمعوا في دار الندوة; وقد سبق بيان القصة [الأنفال: 30]، قاله الأكثرون .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أنه إحكام أمرهم في تكذيبهم، قاله قتادة .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث: أنه: إبرام أمرهم ينجيهم من العذاب، قاله الفراء .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 331 ] فإنا مبرمون أي: محكمون أمرا في مجازاتهم .

                                                                                                                                                                                                                                      أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم وهو ما يسرونه من غيرهم ونجواهم ما يتناجون به بينهم بلى والمعنى: إنا نسمع ذلك ورسلنا يعني [من] الحفظة لديهم يكتبون .

                                                                                                                                                                                                                                      قل إن كان للرحمن ولد في "إن" قولان .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: أنها بمعنى الشرط; والمعنى: إن كان له ولد في قولكم وعلى زعمكم، فعلى هذا في قوله: فأنا أول العابدين أربعة أقوال .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها: فأنا أول الجاحدين، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس . وفي رواية أخرى عن ابن عباس: أن أعرابيين اختصما إليه، فقال أحدهما: إن هذا كانت لي في يده أرض، فعبدنيها، فقال ابن عباس: الله أكبر، فأنا أول العابدين الجاحدين أن لله ولدا .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: فأنا أول من عبد الله مخالفا لقولكم، هذا قول مجاهد وقال الزجاج : معناه: إن كنتم تزعمون للرحمن ولدا، فأنا أول الموحدين .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث: فأنا أول الآنفين لله مما قلتم، قاله ابن السائب، وأبو عبيدة . قال ابن قتيبة : يقال: عبدت من كذا، أعبد عبدا، فأنا عبد وعابد، قال الفرزدق:

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 332 ]

                                                                                                                                                                                                                                      [أولئك قوم إن هجوني هجوتهم] وأعبد أن تهجى تميم بدارم



                                                                                                                                                                                                                                      أي: آنف . وأنشد أبو عبيدة:


                                                                                                                                                                                                                                      وأعبد أن أسبهم بقومي     وأوثر دارما وبني رزاح



                                                                                                                                                                                                                                      والرابع: أن معنى الآية: كما أني لست أول عابد لله، فكذلك ليس له ولد; وهذا كما تقول: إن كنت كاتبا فأنا حاسب، أي: لست كاتبا ولا أنا حاسب; حكى هذا القول الواحدي عن سفيان بن عيينة .

                                                                                                                                                                                                                                      والقول الثاني: أن "إن" بمعنى "ما"، قاله الحسن، ومجاهد، وقتادة، وابن زيد; فيكون المعنى: ما كان للرحمن [ولد]، فأنا أول من عبد الله على يقين أنه لا ولد له . وقال أبو عبيدة: الفاء على [هذا القول] بمعنى الواو .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: فذرهم يعني كفار مكة يخوضوا في باطلهم ويلعبوا في دنياهم حتى يلاقوا وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وابن محيصن، وأبو جعفر: "حتى يلقوا" بفتح الياء والقاف وسكون اللام من غير ألف . والمراد: يلاقوا [يوم] القيامة وهذه الآية [عند الجمهور] منسوخة بآية السيف .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية