الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 414 ] فصل

                وأما كفرهم بالمعبود : فإذا كان لهم في بعض المخلوقات هوى فقد يعبدونه بشبهة الحلول أو الاتحاد الفاسد مثل من يعبد الصور الجميلة ويقول : هذا مظهر الجمال أو الملك المطاع الجبار ويقول : هو مظهر الجلال أو مظهر رباني ونحو ذلك وليس في هذه المخلوقات نوع من الاتحاد أو الحلول الحق لكن يشبه ما فيه الحق من جهة ; إذ كلاهما بالله ومن الله ; وأنه لله ; ولهذا يسوي بينهما أهل الحلول والاتحاد المطلق كما سنبينه إن شاء الله .

                فهؤلاء الاتحادية والحلولية - الذين يخصونه ببعض المصنوعات التي ليس فيها عبادة وإثابة - : هم فرع على أولئك ليس معهم من الحق شيء ولا شبهة حق كما مع أولئك : ألفاظ متشابهة عن بعض الأنبياء والصالحين ولكن مع هؤلاء قول فرعون ; { أنا ربكم الأعلى } و { ما علمت لكم من إله غيري } وقول الدجال : " أنا ربكم " ونحو ذلك .

                فهذه الألفاظ التي معهم من ألفاظ الكفار والمنافقين ومعهم تشبيه الكونيات بالدينيات والكونيات عامة لا اختصاص فيها فلهذا كان هؤلاء أدخل في الاتحاد والحلول المطلق منهم في المعين اعتقادا وقولا وإن كانوا من [ ص: 415 ] جهة الحال والهوى يخصون بعض الأعيان - كما هو الواقع - لشبهة اختصاصه ببعض الأحكام الكونية . وسنتكلم عليهم إن شاء الله في الحلول الفاسد .

                وإنما ذكرتهم هنا لما أردت أن أذكر كل ما فيه شوب اتحاد أو حلول بحق فنبهت على ذلك ليفطن لموضع ضلالهم ; فإذا علم حقيقة هذه الأمور : علم حقيقة { قول النبي صلى الله عليه وسلم أصدق كلمة قالها الشاعر : كلمة لبيد :

                ألا كل شيء ما خلا الله باطل

                } فإن الباطل ضد الحق ; والله هو الحق المبين .

                والحق له معنيان أحدهما : الوجود الثابت والثاني : المقصود النافع كقول النبي { : الوتر حق } .

                والباطل نوعان أيضا :

                أحدهما : المعدوم . وإذا كان معدوما كان اعتقاد وجوده والخبر عن وجوده باطلا ; لأن الاعتقاد والخبر تابع للمعتقد المخبر عنه يصح بصحته ويبطل ببطلانه ; فإذا كان المعتقد المخبر عنه باطلا كان الاعتقاد والخبر كذلك ; وهو الكذب .

                الثاني : ما ليس بنافع ولا مفيد كقوله تعالى : { وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا } وكقول النبي { : كل لهو يلهو [ ص: 416 ] به الرجل فهو باطل إلا رميه بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته امرأته فإنهن من الحق } { وقوله عن عمر : إن هذا رجل لا يحب الباطل } وما لا منفعة فيه : فالأمر به باطل وقصده وعمله باطل ; إذ العمل به والقصد إليه والأمر به باطل .

                ومن هذا قول العلماء : العبادات والعقود تنقسم إلى صحيح وباطل .

                فالصحيح : ما ترتب عليه أثره وحصل به مقصوده .

                والباطل : ما لم يترتب عليه أثره ولم يحصل به مقصوده ; ولهذا كانت أعمال الكفار باطلا .

                فإن الكافر من جهة كونه كافرا يعتقد ما لا وجود له ويخبر عنه فيكون ذلك باطلا ويعبد ما لا تنفعه عبادته ويعمل له ويأمر به فيكون ذلك أيضا باطلا .

                ولكن لما كان لهم أعمال وأقوال صاروا يشبهون أهل الحق ; فلذلك قال تعالى : { والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب } وقال تعالى : { الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم } { والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم } { ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم كذلك يضرب الله للناس أمثالهم } إلى قوله : { ولا تبطلوا أعمالكم } وقال : { وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا } وقال تعالى : { لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا } .

                فبين أن المن والأذى يبطل الصدقة فيجعلها باطلا لا حقا كما يبطل الرياء وعدم الإيمان الإنفاق أيضا . وقد عمم بقوله : { ولا تبطلوا أعمالكم } أي لا تجعلوها باطلة لا منفعة فيها ولا ثواب ولا فائدة .

                وقد غلط طائفة من الناس من الاتحادية وغيرهم كابن عربي فرأوا أن الحق هو الموجود فكل موجود حق . فقالوا : ما في العالم باطل ; إذ ليس في العالم عدم .

                قالوا : والكفر إنما هو عدم وجود الشريك مثلا . وإنما أتوا من جهة اللفظ المجمل .

                فإن الشيء له مرتبتان : مرتبة باعتبار ذاته ; فهو إما موجود فيكون حقا ; وإما معدوم فيكون باطلا . ومرتبة باعتبار وجوده في الأذهان واللسان والبنان وهو العلم والقول [ ص: 418 ] والكتاب ;

                فالاعتقاد والخبر والكتابة أمور تابعة للشيء فإن كانت مطابقة موافقة كانت حقا وإلا كانت باطلا فإذا أخبرنا عن الحق الموجود أنه حق موجود وعن الباطل المعدوم أنه باطل معدوم : كان الخبر والاعتقاد حقا ; وإن كان بالعكس كان باطلا ; وإن كان الخبر والاعتقاد أمرا موجودا . فكونه حقا أو باطلا باعتبار حقيقته المخبر عنها لا باعتبار نفسه .

                ولا يجوز إطلاق القول بأنه حق لمجرد كونه موجودا إلا بقرينة تبين المراد .

                وهكذا العمل والقصد والأمر إنما هو حق باعتبار حقيقته المقصودة فإن حصلت وكانت نافعة : كان حقا وإن لم تحصل أو حصل ما لا منفعة فيه : كان باطلا .

                وبهذين الاعتبارين يصير في الوجود ما هو من الباطل كما دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع مع ما يوافق ذلك من عقل وذوق وكشف خلاف زعم هذه الطائفة الضالة المضلة .

                قال الله تعالى : { أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال } .

                [ ص: 419 ] شبه ما ينزل من السماء على القلوب من الإيمان والقرآن فيختلط بالشبهات والأهواء المغوية بالمطر الذي يحتمل سيله الزبد وبالذهب والفضة والحديد ونحوه إذا أذيب بالنار فاحتمل الزبد فقذفه بعيدا عن القلب وجعل ذلك الزبد هو مثل ذلك الباطل الذي لا منفعة فيه ; وأما ما ينفع الناس من الماء والمعادن فهو مثل الحق النافع فيستقر ويبقى في القلب .

                وقد تقدم قوله تعالى { الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم } إلى قوله : { ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم كذلك يضرب الله للناس أمثالهم } .

                فأخبر سبحانه أن سبب إضلال أعمال هؤلاء الذين كفروا حتى لم تنفعهم وأن أعمال هؤلاء الذين آمنوا نفعتهم فكفرت سيئاتهم وأصلح الله بالهم : أن هؤلاء اتبعوا الباطل قولا وعملا اعتقادا واقتصادا خبرا وأمرا . وهؤلاء اتبعوا الحق من ربهم ولم يتبعوا ما هو من غير ربهم وإن كان حقا من وجه .

                وهذا تحقيق ما قلناه ; فإن الخبر والعمل تابع للمخبر عنه وللمقصود بالعمل فإذا كان ذلك باطلا لا حقيقة له كان التابع كذلك وإن كان موجودا .

                وكذلك ما تقدم من قوله : { لا تبطلوا صدقاتكم } وقوله : { ولا تبطلوا أعمالكم } ونحو ذلك من إبطال ما قد مضى ووجد إنما هو عدم لعدم فائدته لا عدم ذاته ; فإن ذاته انقضت كما انقضى ما لم يبطل من الأعمال فكيف [ ص: 420 ] يقال : لا باطل في الوجود ؟ ثم يجعل هذا ذريعة إلى أن ذلك الموجود الذي فيه الحق والباطل هو عين الله ; لأنه هو الحق ولا يميز بين الحق الخالق والحق المخلوق ؟ فتدبر كيف اشتمل مثل هذا الكلام على هاتين المقدمتين الباطلتين ؟ وكيف استزلوا عقول الضعفاء بهذه الشبهة ؟

                وقالوا : قوله

                " ألا كل شيء ما خلا الله باطل "

                والباطل هو المعدوم فكل ما سوى الله معدوم والموجود ليس بمعدوم . فالموجود ليس فيه سوي وإنما السوي هو العدم .

                فإن هذا مبني على المقدمتين الباطلتين .

                إحداهما : قولهم : إن الباطل هو المعدوم ; فإنه ليس كذلك بل المعدوم باطل وليس كل موجود باطلا بل في الموجود ما هو حق وفيه ما هو باطل كما تقدم : وهو الأعمال التي لا تنفع والأخبار التي ليست بصدق وما يندرج في هذين من المقاصد والعقائد .

                الثانية : لو كان لا باطل إلا المعدوم لكان الموجود حقا وكل موجود . فقد يسمى حقا مع القرينة المفسرة باعتبار وجوده وإن كان باطلا لانتفاء حقيقته التي بها جاز إطلاق الحق عليه لكن الحق حقان : حق خالق وحق مخلوق .

                [ ص: 421 ] وقد كان النبي - في الحديث المتفق عليه الذي رواه ابن عباس - يقول : { إذا قام من الليل اللهم لك الحمد أنت رب السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت قيم السموات والأرض ومن فيهن أنت الحق وقولك الحق ووعدك حق والجنة حق والنار حق والنبيون حق ومحمد حق اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت .

                } وإذا ظهر أن في الوجود ما هو باطل في الحقيقة ; ومنه ما هو حق من مخلوقات الله ليس هو الله : ظهر تمويههم بقولهم : إن الباطل هو السوي وهو العدم ; وأما الموجود فهو هو .

                وأيضا فنفس الحديث حجة عليهم . فإن قوله : "

                ألا كل شيء ما خلا الله باطل

                " لفظ عام يدخل فيه كل موجود سوى الله ; فإن لفظ : " الشيء " يعم كل الموجود بالاتفاق ويدخل فيه ما له وجود ذهني أو لفظي أو رسمي كتابي وإن لم يكن له وجود حقيقي من المعدومات والممتنعات ; فهذا نص في أن كثيرا من الموجودات باطل ولا يجوز أن يراد به : كل معدوم ما خلا الله فهو باطل لثلاثة أوجه : -

                أحدها : أنه قد استثنى الله تعالى وهو الحق المبين من لفظ إثبات ومثل هذا الاستثناء يدل على التناول بخلاف الاستثناء من غير موجب [ ص: 422 ] كقوله : { ما لهم به من علم إلا اتباع الظن } فإن ذلك لا يدل على التناول فلو كان التقدير : كل معدوم ما خلا الله باطل للزم أن يكون الحق تعالى معدوما وهذا أبطل الباطل .

                الثاني : أن " كل شيء " نص في الوجود لا يجوز قصرها على المعدومات بالاتفاق .

                الثالث : أن المعدوم لا يدخل في لفظ " كل شيء " عند أهل السنة وعامة العقلاء فضلا عن كونه يختص به .

                الرابع : أنه لو كان المعنى : كل معدوم فهو باطل لكان هذا من باب تحصيل الحاصل بل لفظ " العدم " أدل على النفي من لفظ الباطل . فكيف يبين الجلي بالخفي ؟ .

                الخامس : أنه لو أراد هذا لقال : " كل ما سوى الله باطل " فإن هذه العبارة أقرب إلى احتمال مراد هؤلاء الملاحدة من هذا اللفظ وإن كانت تلك العبارة لا تدل أيضا على مرادهم .

                وإذا لم يكن معنى الحديث ما ادعوه فقد عرف أن كل ما سوى الله فهو باطل بوجهي الباطل اللذين تقدم تفسيرهما .

                أحدهما - وهو المقصود النافع . والباطل ما لا منفعة في قصده وكل شيء ما خلا الله - إذا كان له القصد والعمل - كان ذلك باطلا والأمر به [ ص: 423 ] باطل وهذا يشبه حال المشركين الذين كانوا يعبدون غير الله أو يعبدون الله بغير أمر الله ولا شرعه .

                فإن قيل : فالباطل هو نفس القصد والعمل لا نفس العين المقصودة .

                قلت : بل نفس العين المقصودة باطل بالاعتبار الذي قصدت له كما جاء في الحديث : { أشهد أن كل معبود من لدن عرشك إلى قرار أرضك باطل إلا وجهك الكريم } .

                وذلك : أنه إذا كان الباطل في الأصل هو العدم والعدم هو المنفي فالشيء ينفى لانتفاء وجوده في الجملة كقوله تعالى : { لم يلد ولم يولد } { ولم يكن له كفوا أحد } و { ليس كمثله شيء } وقوله : { ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله } وقوله { لا إله إلا الله } وقول النبي صلى الله عليه وسلم { : لا نبي بعدي } .

                وقد ينفى لانتفاء فائدته ومقصوده وخاصته التي هو بها هو كما ذكرناه ; فإن ما لا فائدة فيه فهو باطل والباطل معدوم وهذا { كقوله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الكهان : ليسوا بشيء } ومنه قوله تعالى تعالى : { يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم } .

                وقد ينفى الشيء لانتفاء كماله وتمامه إما مطلقا وإما بالنسبة إلى غيره كقول النبي صلى الله عليه وسلم { : ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان وإنما المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا [ ص: 424 ] يتفطن له فيتصدق عليه ولا يسأل الناس إلحافا . } ونحو ذلك قوله في المفلس والرقوب ونظائر كل من هذه الأقسام الثلاثة كثيرة .

                فالشيء المقصود لأمر هو باطل منتف إذا انتفت فائدته ومقصوده فكل ما سوى الله لا يجوز أن يكون معبودا ولا مستعانا فقد انتفى مما سوى الله هذا المعنى المقصود فهو باطل وكل ما سوى الله لا يجوز أن يكون صمدا مقصودا ولا معبودا ولا فائدة في قصده ولا منفعة في عبادته واستعانته : فهو باطل . وهذا واضح وهذا عموم محفوظ لا يستثنى منه شيء .

                وبيان ذلك : أن كل ما سوى الله فإما أن يقصد لنفسه وإما أن يقصد لغيره .

                فالمقصود لغيره : مثل ما يقصد الخبز للأكل والثوب للبس والسلاح للدفع ونحو ذلك ; وهو ما خلقه الله لنفع بني آدم من الأعيان ; فإن هذه إنما تقصد لغيرها لا لذاتها وكذلك المال الذي يقصد به جلب منفعة أو دفع مضرة إنما يقصد لغيره لا لنفسه وكل ما قصد لغيره فإنما المقصود في الحقيقة ذلك الغير .

                وهذا مراد له بحيث إن حصل ذلك الغير المقصود لنفسه وإلا كان هذا مما لا فائدة فيه ولا منفعة فيكون من باب الباطل الذي ينفى ويقال فيه : ليس بشيء ; وهو باطل ويلحق بالمعدوم .

                [ ص: 425 ] فثبت أنه إن لم يحصل في كل قصد مقصود لنفسه وإلا كان باطلا والمقصود لنفسه إن لم يكن هو الله كان باطلا ; فإن المقصود لنفسه هو المعبود ; ومن عبد غير الله كان باطلا وعبادته باطلة ; لأنه لا منفعة فيه ولا في عبادته بل ذلك ضرر محض .

                قال الله تعالى : { يدعو لمن ضره أقرب من نفعه } وهذا عام في كل معبود وهذا حقيقة الدين . فإن الله إنما خلق الخلق لعبادته وحده لا شريك له وسخر لهم ما في السموات وما في الأرض ليستعينوا به على عبادته ; فمن لم يستعن بهذه الأشياء على عبادته فعمله كله وقصده باطل ولا منفعة فيه بل فيه الضرر .

                فثبت أن كل قصد ومقصود سوى الله باطل سواء كان مقصودا لنفسه أو لغيره سوى الله وإنما الحق أن يقصد الله أو يقصد ما يستعان به على قصد الله . وهذا تحقيق قوله : "

                ألا كل شيء ما خلا الله باطل

                " بأحد وجهي الحق والباطل وهو كونه مقصودا ومطلوبا وهو أظهر وجهيه .

                الثاني : أن كل ما خلا الله فهو معدوم بنفسه ليس له من نفسه وجود ولا حركة ولا عمل ولا نفع لغيره منه إذ ذلك جميعه خلق الله وإبداعه وبرؤه وتصويره فكل الأشياء إذا تخلى عنها الله فهي باطل يكفي في عدمها وبطلانها نفس تخليه عنها وأن لا يقيمها هو بخلقه ورزقه ; وإذا كانت باطلة في أنفسها - والحق إنما هو لله وبالله ومن الله - صدق قول القائل : "

                ألا كل شيء ما خلا الله باطل

                " باعتبارين : -

                [ ص: 426 ] أحدهما : أن صنعه على هذا التقدير ليس مستغنيا عنه ولا قائما بسواه ولا خارجا عنه ; فأدخل في اسمه على سبيل التبع لا لأنه جزء من المسمى وكثيرا ما يدخل في الاسم الجامع والأسماء العامة أشياء على سبيل التبع لا لأنها جزء من المسمى كما لو قال : بعتك هذا الفرس دخل فيه نعله . ولو قال القائل : دخل زيد إلى داري كانت ثيابه داخلة في حكم اسمه وكذلك إذا قيل : حملت زيدا وركب زيد على الدابة وإذا قيل : بنو هاشم : دخل فيهم مواليهم لقوله صلى الله عليه وسلم { مولى القوم منهم } وقد يدخل فيهم الحليف وابن الأخت ; وهذا مشهور في كلام العرب وأهل المغازي .

                الاعتبار الثاني : أن القائل إذا قال : جاء القوم ما خلا زيدا فإن " خلا " هنا فعل ناقص من أخوات " كان " وزيدا منصوب به ; وفيه ضمير مرفوع وذلك الضمير عائد على " ما " أخت الذي وهي الموصولة ; وهذه الجملة صلة " ما " وكان تقدير الكلام : قام القوم الذين هم خلا زيدا لكن " ما " يحتمل الواحد والاثنين والجميع والضمير يعود إلى لفظها أكثر من معناها . فقوله : رأيت ما رأيته من الرجال : أحسن من قولك : ما رأيتهم من الرجال . وباب : ومنهم من يستمع إليك أكثر وأفصح من قوله : " من يستمعون " ولهذا قوي فصار : ما خلا زيدا يقوم مقام الذي خلا والذين خلوا واللاتي خلون ونحو ذلك . تقول : قامت النسوة ما خلا هندا .

                ولفظ " ما " إما أن يكون له موضع من الإعراب وهو الوصف لما [ ص: 427 ] قبله أو النصب على الحال أو لا موضع له ; وإذا كان التقدير : كل شيء في حال خلوه عن الله باطل أو كل شيء خلا الله فهو باطل أو كل الأشياء حال كونها خلت الله أو التي خلت الله باطل ; فخلوها الله قد يتضمن معنى خلوها منه .

                ومعلوم أنها متى خلته أي خلت منه : كانت باطلا وإنما قيامها بأن لا تتخلى منه بل تتقوم به . وهذا . . . في الأصل دون غيره من أدوات الاستثناء .

                وأصل هذا المعنى مقصود من هذا . . . في قول النبي صلى الله عليه وسلم .

                وهذا التوحيد وتفسيره المذكور في قوله : "

                ألا كل شيء ما خلا الله باطل

                " هو نحو مما ذكر في قوله تعالى { كل شيء هالك إلا وجهه } بعد قوله : { فلا تكونن ظهيرا للكافرين } { ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك وادع إلى ربك ولا تكونن من المشركين } { ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون } فإن ذكره ذلك بعد نهيه عن الإشراك وأن يدعو معه إلها آخر وقوله : { لا إله إلا هو } يقتضي أظهر الوجهين وهو أن كل شيء هالك إلا ما كان لوجهه من الأعيان والأعمال وغيرهما .

                روي عن أبي العالية قال : " إلا ما أريد به وجهه وعن " جعفر الصادق " إلا دينه " ومعناهما واحد .

                [ ص: 428 ] وقد روي عن عبادة بن الصامت قال " يجاء بالدنيا يوم القيامة فيقال : ميزوا ما كان لله منها . قال : فيماز ما كان لله منها ثم يؤمر بسائرها فيلقى في النار " .

                وقد روي عن علي ما يعم . ففي تفسير الثعلبي عن صالح بن محمد عن سليمان بن عمرو عن سالم الأفطس عن الحسن وسعيد بن جبير عن علي بن أبي طالب " أن رجلا سأله فلم يعطه شيئا . فقال : أسألك بوجه الله فقال له علي . كذبت ليس بوجه الله سألتني إنما وجه الله الحق ألا ترى إلى قوله : { كل شيء هالك إلا وجهه } يعني الحق - ولكن سألتني بوجهك الخلق " وعن مجاهد " إلا هو " وعن الضحاك " كل شيء هالك إلا الله والجنة والنار والعرش " وعن ابن كيسان " إلا ملكه " .

                وذلك أن لفظ " الوجه " يشبه أن يكون في الأصل مثل الجهة كالوعد والعدة والوزن والزنة والوصل والصلة والوسم والسمة لكن فعله حذفت فاؤها وهي أخص من الفعل كالأكل والإكلة . فيكون مصدرا بمعنى التوجه والقصد كما قال الشاعر :

                أستغفر الله ذنبا لست محصيه     رب العباد إليه الوجه والعمل

                ثم إنه يسمى به المفعول وهو المقصود المتوجه إليه كما في اسم الخلق ودرهم ضرب الأمير ونظائره ويسمى به الفاعل المتوجه كوجه الحيوان يقال : أردت هذا الوجه أي هذه الجهة والناحية .

                ومنه قوله : { ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله } أي قبلة الله ووجهة الله هكذا قال جمهور السلف وإن عدها بعضهم في الصفات وقد يدل على الصفة بوجه فيه نظر وذلك أن معنى قوله : { فأينما تولوا } أي تتولوا أي تتوجهوا وتستقبلوا يتعدى إلى مفعول واحد بمعنى يتولاها .

                ونظير : ولي وتولى : قدم وتقدم وبين وتبين كما قال : { لا تقدموا بين يدي الله ورسوله } وقال : { بفاحشة مبينة } وهو الوجه الذي لله والذي أمر الله أن نستقبل . فإن قوله : { ولله المشرق والمغرب } يدل على أن وجه الله هناك من المشرق والمغرب الذي هو لله كما في آية القبلة : { سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم }

                فلما سألوا عن سبب التولي عن القبلة أخبر أن له المشرق والمغرب .

                وأما لفظ " وجهة " مثل قوله : { ولكل وجهة هو موليها } فقد يظن أيضا أنه مصدر كالوجه كالوعدة مع الوعد وأنها تركت صحيحة فلم تحذف فاؤها وليس كذلك .

                لأنه لو كان مصدرا لحذفت واوه وهو الجهة . وكان يقال ولكل جهة أو وجه وإنما الفعلة هنا بمعنى المفعول كالقبلة والبدعة والذبحة ونحو ذلك . فالقبلة : ما استقبل والوجهة : ما توجه إليه والبدعة : ما ابتدع والذبحة : ما ذبح ; ولهذا صح ولم تحذف فاؤه ; لأن الحذف إنما هو من المصدر لا من [ ص: 430 ] بقية الأسماء كالصفات وما يشبهها مثل أسماء الأمكنة والأزمنة والآلات والمفاعيل وغير ذلك .

                وأما قول بعض الفقهاء : إن الوجه مشتق من المواجهة : فلا دليل عليه بل قد عارضه من قال : هو مشتق من الوجاهة ; وكلاهما ضعيف . وإنما المواجهة مشتق من الوجه كما أن المشافهة مشتق من الشفة والمناظرة - بمعنى المقابلة - مشتقة من النظر والمعاينة من العين .

                وأما اشتقاق الوجه الذي هو المتوجه . من الوجه الذي هو التوجه ; فهذا أشبه ; لأن توجهه : هو فعله المختص به الذي لا يفتقر فيه إلى غيره بخلاف المواجهة فإنها تستدعي اثنين والإنسان هو حارث همام وهمه هو توجهه وإنما يتوجه بهذا العضو إلى أي شيء أراده وتوجه إليه .

                ومن هذا الباب قوله تعالى { بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه } وقوله تعالى { ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا } وقول الخليل ونبينا والمؤمنين في الصلاة : { وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين } وقوله تعالى { قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين كما بدأكم تعودون } الآية وقوله : { فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها } وقوله : { فأقم وجهك للدين القيم } وقوله : { وأن أقم وجهك للدين حنيفا ولا تكونن من المشركين } وقول النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 431 ] للذي علمه دعاء النوم : { اللهم أسلمت نفسي إليك ووجهت وجهي إليك } وقال زيد بن عمرو بن نفيل :

                أسلمت وجهي لمن أسلمت     له المزن تحمل عذبا زلالا

                فهذه ثلاثة ألفاظ : أسلم وجهه ووجه وجهه وأقام وجهه .

                قال قدماء المفسرين في قوله تعالى أسلم وجهه أي أخلص في دينه وعمله لله وقال بعضهم : فوض أمره إلى الله وقد قيل : خضع وتواضع لله . وهذا الثالث يليق بالإسلام اللازم فإن وجهه هو قصده وتوجهه الذي هو أصل عمله وهو عمل قلبه الذي هو ملك بدنه فإذا توجه قلبه تبعه أيضا توجه وجهه فاستتبع القصد الذي هو الأصل من القلب الذي هو الأصل للعمل الذي هو تبع من الوجه وسائر البدن الذي هو تبع فيكون قد أسلم عمله الباطن والظاهر وأعضاءه الباطنة والظاهرة لله ; أي سلمه له وأخلصه لله كما في الإسلام اللازم وهو قوله : { أسلمت لرب العالمين } وقوله عن بلقيس : { إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين } وقوله عن إبراهيم وإسماعيل : { ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك } أي منقادة مخلصة .

                وكذلك توجيه الوجه للذي فطر السموات والأرض : توجيه قصده وإرادته وعبادته وذلك يستتبع الوجه وغيره وإلا فمجرد توجيه العضو من غير عمل القلب لا يفيد شيئا .

                [ ص: 432 ] قال الزجاج في قوله : { وجهت وجهي } أي جعلت قصدي بعبادتي وتوحيدي لله رب العالمين وكذلك قوله : { وأقيموا وجوهكم } فإن الوجوه التي هي المقاصد والنيات التي هي عمل القلب وهي أصل الدين : تارة تقام وتارة تزاغ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم { ما من قلب من قلوب العباد إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن إن شاء أن يقيمه أقامه وإن شاء أن يزيغه أزاغه } فإقامة الوجه ضد إزاغته وإمالته وهو الصراط المستقيم .

                فإذا قوم قصده وسدده ولم ينحرف يمينا ولا شمالا كان قصده لله رب العالمين كما قال : { لا شرقية ولا غربية } وكذلك قال الربيع بن أنس : " اجعلوا سجودكم خالصا لله " فلا تسجدوا إلا لله .

                وروي عن الضحاك وابن قتيبة " إذا حضرت الصلاة وأنتم عند مسجد فصلوا فيه ولا يقولن أحدكم : أصلي في مسجدي كأنه أراد صلوا لله عند كل مسجد لا تخصوا مسجدا دون مسجد .

                وعلى هذين القولين يتوجه ما ذكرناه .

                وروي عن مجاهد والسدي وابن زيد : " توجهوا حيث كنتم في الصلاة إلى الكعبة " .

                وعلى هذا : فإقامة الوجه استقبال الكعبة وهذا فيه نظر ; فإن هذه الآية مكية والكعبة إنما فرضت في المدينة إلا أن يراد بإقامة الوجه الاستقبال المأمور به .

                [ ص: 433 ] وإنما وقع النزاع هنا لقوله تعالى { عند كل مسجد } بخلاف قوله تعالى { فأقم وجهك للدين حنيفا } .

                فقوله : { كل شيء هالك إلا وجهه } أي دينه وإرادته وعبادته والمصدر يضاف إلى الفاعل تارة وإلى المفعول أخرى وهو قولهم : ما أريد به وجهه وهو نظير قوله : { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } فكل معبود دون الله باطل وكل ما لا يكون لوجهه فهو هالك فاسد باطل وسياق الآية يدل عليه وفيه المعنى الآخر .

                فإن الإلهية تستلزم الربوبية ; ولهذا قال : { له الحكم وإليه ترجعون } . وفي هذا قول آخر يقوله كثير من أهل العلم : أن الوجه في مثل قوله : أسلم وجهه وأقم وجهك و وجهت وجهي : هو الوجه الظاهر كما أنه كذلك بالاتفاق في قوله : { قد نرى تقلب وجهك في السماء } وفي قوله : { فولوا وجوهكم شطره } وفي قوله : { فاغسلوا وجوهكم } وقد جاء الوجه في صفات الله في مواضع من الكتاب والسنة ليس هذا موضعها .

                قالوا : لكن الوجه إذا وجه : تبعه سائر الإنسان وإذا أسلم : فقد أسلم سائر الإنسان وإذا أقيم فقد أقيم سائره ; لأنه هو المتوجه أولا من الأعضاء الظاهرة للقاصد الطالب ; ولهذا يذكر كثيرا على وجه الاستلزام لسائر صاحبه [ ص: 434 ] ويعبر به عنه لكن هل هذا من باب الحقيقة العرفية التي تقلب الاسم من الخصوص إلى العموم أو الحقيقة اللغوية باقية وهو من باب الدلالة اللزومية ؟ فيه قولان .

                وكذلك في سائر الأعضاء حتى لو قال لعبده : يدك أو رجلك حر أو قال لزوجته : يدك أو رجلك طالق إن أعطيتني ألفا ثم قطع العضو قبل الإعطاء . فمن قال : إن اللفظ عبارة عن الجميع أوقع الطلاق والعتق . ومن قال : إن الاسم للعضو فقط لم يسر العتق عنده إلى سائر الجملة ; لعدم تبعيضه . وقال : إنه لا يقع شيء في هذه الصورة .

                وإلى هذا الأصل يعود معنى قول من قال : كل شيء هالك إلا وجهه كما قد قيل في قوله : { كل من عليها فان } { ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } فإن بقاء وجهه المذوى بالجلال والإكرام : هو بقاء ذاته .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية