الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب المستحاضة

أخبرنا الربيع قال أخبرنا الشافعي قال أخبرنا مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت { قالت فاطمة بنت أبي حبيش لرسول الله صلى الله عليه وسلم إني لا أطهر أفأدع الصلاة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ذلك عرق وليس بالحيضة فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة فإذا ذهب قدرها فاغسلي الدم عنك وصلي } . أخبرنا الربيع قال أخبرنا الشافعي قال أخبرنا إبراهيم بن محمد قال أخبرنا عبد الله بن محمد بن عقيل عن إبراهيم بن محمد بن طلحة عن عمه عمران بن طلحة عن أمه { حمنة بنت جحش قالت كنت أستحاض حيضة كثيرة شديدة فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أستفتيه فوجدته في بيت أختي زينب فقلت يا رسول الله إن لي إليك حاجة وإنه لحديث ما منه بد وإني لأستحيي منه قال : فما هو يا هنتاه قالت إني امرأة أستحاض حيضة كثيرة شديدة فما ترى فيها فقد منعتني [ ص: 78 ] الصلاة والصوم فقال النبي صلى الله عليه وسلم فإني أنعت لك الكرسف فإنه يذهب الدم قالت هو أكثر من ذلك قال : فتلجمي . قالت هو أكثر من ذلك قال : فاتخذي ثوبا قالت : هو أكثر من ذلك إنما أثج ثجا قال النبي صلى الله عليه وسلم سآمرك بأمرين أيهما فعلت أجزأك عن الآخر فإن قويت عليهما فأنت أعلم قال لها إنما هي ركضة من ركضات الشيطان فتحيضي ستة أيام ، أو سبعة أيام في علم الله تعالى ثم اغتسلي حتى إذا رأيت أنك قد طهرت واستنقيت فصلي أربعا وعشرين ليلة وأيامها ، أو ثلاثا وعشرين وأيامها وصومي فإنه يجزئك وهكذا افعلي في كل شهر كما تحيض النساء ويطهرن لميقات حيضهن وطهرهن } ومن غير هذا الكتاب { وإن قويت على أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر وتغتسلي حتى تطهري ، ثم تصلي الظهر والعصر ، ثم تؤخرين المغرب وتعجلين العشاء ، ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين وتغتسلين مع الفجر } .

( قال الشافعي ) هذا يدل على أنها تعرف أيام حيضها ستا ، أو سبعا فلذلك قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم { وإن قويت على أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر فتغتسلي حتى تطهري ، ثم تصلي الظهر والعصر جميعا ثم تؤخري المغرب وتعجلي العشاء ، ثم تغتسلي وتجمعي بين المغرب والعشاء فافعلي وتغتسلين عند الفجر ، ثم تصلين الصبح وكذلك فافعلي وصومي إن قويت على ذلك وقال هذا أحب الأمرين إلي } أخبرنا الربيع قال أخبرنا الشافعي قال أخبرنا مالك عن نافع عن سليمان بن يسار عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم { أن امرأة كانت تهراق الدماء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتت لها أم سلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لتنظر عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها فلتترك الصلاة قدر ذلك من الشهر فإذا فعلت ذلك فلتغتسل ولتستثفر ، ثم تصلي } ( قال الشافعي ) فبهذه الأحاديث الثلاثة نأخذ وهي عندنا متفقة فيما اجتمعت فيه وفي بعضها زيادة على بعض ومعنى غير معنى صاحبه وحديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم يدل على أن فاطمة بنت أبي حبيش كان دم استحاضتها منفصلا من دم حيضها لجواب النبي صلى الله عليه وسلم وذلك أنه قال { : فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة فإذا ذهب قدرها فاغسلي الدم عنك وصلي } .

( قال الشافعي ) فنقول إذا كان الدم ينفصل فيكون في أيام أحمر قانئا ثخينا محتدما وأياما رقيقا إلى الصفرة أو رقيقا إلى القلة فأيام الدم الأحمر القانئ المحتدم الثخين أيام الحيض وأيام الدم الرقيق أيام الاستحاضة ( قال الشافعي ) ولم يذكر في حديث عائشة الغسل عند تولي الحيضة وذكر غسل الدم فأخذنا بإثبات الغسل من قول الله عز وجل { ويسألونك عن المحيض قل هو أذى } الآية ( قال الشافعي ) فقيل : والله تعالى أعلم - يطهرن من الحيض فإذا تطهرن بالماء ، ثم من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أبان رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الطهارة بالماء الغسل وفي حديث حمنة بنت جحش فأمرها في الحيض أن تغتسل إذا رأت أنها طهرت ثم أمرها في حديث حمنة بالصلاة فدل ذلك على أن لزوجها أن يصيبها ; لأن الله تبارك وتعالى أمر باعتزالها حائضا وأذن في إتيانها طاهرا فلما حكم النبي صلى الله عليه وسلم للمستحاضة حكم الطهارة في أن تغتسل وتصلي دل ذلك على أن لزوجها أن يأتيها ( قال ) وليس عليها إلا الغسل الذي حكمه الطهر من الحيض بالسنة وعليها الوضوء لكل صلاة قياسا على السنة في الوضوء بما خرج من دبر ، أو فرج مما له أثر ، أو لا أثر له ( قال الشافعي ) وجواب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأم سلمة في المستحاضة يدل على أن المرأة التي سألت لها أم سلمة كانت لا ينفصل دمها فأمرها أن تترك الصلاة عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها .

( قال الشافعي ) وفي هذا دليل على أن لا وقت للحيضة إذا كانت المرأة [ ص: 79 ] ترى حيضا مستقيما وطهرا مستقيما وإن كانت المرأة حائضا يوما ، أو أكثر فهو حيض وكذلك إن جاوزت عشرة فهو حيض ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تترك الصلاة عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن ولم يقل إلا أن يكون كذا وكذا أي تجاوز كذا ( قال الشافعي ) وإذا ابتدأت المرأة ولم تحض حتى حاضت فطبق الدم عليها فإن كان دمها ينفصل فأيام حيضها أيام الدم الثخين الأحمر القانئ المحتدم وأيام استحاضتها أيام الدم الرقيق فإن كان لا ينفصل ففيها قولان : أحدهما - أن تدع الصلاة ستا ، أو سبعا ، ثم تغتسل وتصلي كما يكون الأغلب من حيض النساء ( قال ) ومن ذهب إلى جملة حديث حمنة بنت جحش وقال لم يذكر في الحديث عدد حيضها فأمرت أن يكون حيضها ستا ، أو سبعا والقول الثاني - أن تدع الصلاة أقل ما علم من حيضهن وذلك يوم وليلة ، ثم تغتسل وتصلي ولزوجها أن يأتيها ولو احتاط فتركها وسطا من حيض النساء ، أو أكثر كان أحب إلي ومن قال بهذا قال إن حمنة وإن لم يكن في حديثها ما نص أن حيضها كان ستا ، أو سبعا فقد يحتمل حديثها ما احتمل حديث أم سلمة من أن يكون فيه دلالة أن حيضها كان ستا ، أو سبعا ; لأن فيه { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فتحيضي ستا ، أو سبعا ثم اغتسلي فإذا رأيت أنك قد طهرت فصلي } فيحتمل إذا رأت أنها قد طهرت بالماء واستنقت من الدم الأحمر القانئ ( قال ) وإن كان يحتمل طهرت واستنقت بالماء .

( قال ) فقد علمنا أن حمنة كانت عند طلحة وولدت له وأنها حكت حين استنقت ذكرت أنها تثج الدم ثجا وكان العلم يحيط أن طلحة لا يقربها في هذه الحال ولا تطيب هي نفسها بالدنو منه وكان مسألتها بعدما كانت زينب عنده دليلا محتملا على أنه أول ما ابتليت بالاستحاضة وذلك بعد بلوغها بزمان فدل على أن حيضها كان يكون ستا ، أو سبعا فسألت النبي صلى الله عليه وسلم وشكت أنه كان ستا ، أو سبعا فأمرها إن كان ستا أن تتركه ستا وإن كان سبعا أن تتركه سبعا وذكرت الحديث فشكت وسألته عن ست فقال لها ست ، أو عن سبع فقال لها سبع وقال كما تحيض النساء إن النساء يحضن كما تحيضين ( قال الشافعي ) قول صلى الله عليه وسلم تحيضي ستا ، أو سبعا في علم الله يحتمل أن علم الله ست ، أو سبع تحيضين ( قال ) وهذا أشبه معانيه - والله تعالى أعلم - ( قال ) وفي حديث { حمنة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها إن قويت فاجمعي بين الظهر والعصر بغسل وبين المغرب والعشاء بغسل وصلي الصبح بغسل } وأعلمها أنه أحب الأمرين إليه لها وأنه يجزيها الأمر الأول من أن تغتسل عند الطهر من المحيض ، ثم لم يأمرها بغسل بعده فإن قال قائل فهل روى هذا أحد أنه أمر المستحاضة بالغسل سوى الغسل الذي تخرج به من حكم الحيض فحديث حمنة يبين أنه اختيار وأن غيره يجزي منه .

( قال الشافعي ) وإن روي في المستحاضة حديث مستغلق ففي إيضاح هذه الأحاديث دليل على معناه والله تعالى أعلم فإن قال قائل فهل يروى في المستحاضة شيء غير ما ذكرت قيل له : نعم أخبرنا الربيع قال أخبرنا الشافعي قال أخبرنا إبراهيم بن سعد أنه سمع ابن شهاب يحدث عن عمرة عن عائشة أن { أم حبيبة بنت جحش استحيضت سبع سنين فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم واستفتته فيه قالت عائشة فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليست تلك الحيضة وإنما ذلك عرق فاغتسلي وصلي قالت عائشة فكانت تجلس في مركن فيعلو الماء حمرة الدم ، ثم تخرج فتصلي } أخبرنا الربيع قال أخبرنا الشافعي قال أخبرنا سفيان قال أخبرني الزهري عن عمرة عن عائشة { أن أم حبيبة استحيضت فكانت لا تصلي سبع سنين فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إنما هو عرق وليست بالحيضة فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تغتسل وتصلي فكانت تغتسل لكل صلاة وتجلس في المركن فيعلوه الدم } .

فإن قال فهذا حديث ثابت فهل يخالف الأحاديث [ ص: 80 ] التي ذهبت إليها ؟ قلت : لا إنما أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تغتسل وتصلي وليس فيه أنه أمرها أن تغتسل لكل صلاة فإن قال ذهبنا إلى أنها لا تغتسل لكل صلاة إلا وقد أمرها بذلك ولا تفعل إلا ما أمرها قيل له أفترى أمرها أن تستنقع في مركن حتى يعلو الماء حمرة الدم ، ثم تخرج منه فتصلي ، أو تراها تطهر بهذا الغسل قال ما تطهر بهذا الغسل الذي يغشى جسدها فيه حمرة الدم ولا تطهر حتى تغسله ولكن لعلها تغسله قلت أفأبين لك أن استنقاعها غير ما أمرت به قال : نعم ، قلت : فلا تنكر أن يكون غسلها ولا أشك - إن شاء الله تعالى - أن غسلها كان تطوعا غير ما أمرت به وذلك واسع لها ألا ترى أنه يسعها أن تغتسل ولو لم تؤمر بالغسل قال بلى ( قال الشافعي ) وقد روى غير الزهري هذا الحديث { أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تغتسل لكل صلاة } ولكن رواه عن عمرة بهذا الإسناد والسياق والزهري أحفظ منه وقد روى فيه شيئا يدل على أن الحديث غلط قال تترك الصلاة قدر أقرائها وعائشة تقول الأقراء الأطهار قال أفرأيت لو كان تثبت الروايتان فإلى أيهما تذهب ؟ قلت إلى حديث حمنة بنت جحش وغيره مما أمرن فيه بالغسل عند انقطاع الدم ولو لم يؤمرن به عند كل صلاة .

( قال الشافعي ) فإن قال فهل من دليل غير الخبر ؟ قيل : نعم قال الله عز وجل { ويسألونك عن المحيض قل هو أذى } إلى قوله - { فإذا تطهرن } فدلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الطهر هو الغسل وأن الحائض لا تصلي والطاهر تصلي وجعلت المستحاضة في معنى الطاهر في الصلاة فلم يجز أن تكون في معنى طاهر وعليها غسل بلا حادث حيضة ولا جنابة ( قال ) أما إنا فقد روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المستحاضة تتوضأ لكل صلاة قلت نعم قد رويتم ذلك وبه نقول قياسا على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو كان محفوظا عندنا كان أحب إلينا من القياس .

التالي السابق


الخدمات العلمية