الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب النكاح بغير ولي

قال الله (تعالى): وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن ؛ الآية؛ قوله (تعالى): فبلغن أجلهن ؛ المراد حقيقة البلوغ بانقضاء العدة؛ والعضل يعتوره معنيان؛ أحدهما المنع؛ والآخر الضيق؛ يقال: "عضل الفضاء بالجيش"؛ إذا ضاق بهم؛ و"الأمر المعضل" هو الممتنع؛ و"داء عضال": ممتنع؛ وفي التضييق يقال: "عضلت عليهم الأمر"؛ إذا ضيقت؛ و"عضلت المرأة بولدها"؛ إذا عسر ولادها؛ و"أعضلت"؛ والمعنيان متقاربان; لأن الأمر الممتنع يضيق فعله؛ وزواله؛ والضيق ممتنع أيضا؛ وروي أن الشعبي سئل عن مسألة صعبة؛ فقال: "زباء؛ ذات وبر؛ لا تنساب؛ ولا تنقاد؛ ولو نزلت بأصحاب محمد لأعضلت بهم".

وقوله (تعالى): ولا تعضلوهن ؛ معناه: لا تمنعوهن؛ أو: لا تضيقوا عليهن في التزويج؛ وقد دلت هذه الآية من وجوه على جواز النكاح؛ إذا عقدت على نفسها بغير ولي؛ ولا إذن وليها؛ أحدها إضافة العقد إليها؛ من غير شرط إذن الولي؛ والثاني نهيه عن العضل إذا تراضى الزوجان.

فإن قيل: لولا أن الولي يملك منعها عن النكاح لما نهاه عنه؛ كما لا ينهى الأجنبي الذي لا ولاية له عنه؛ قيل له: هذا غلط; لأن النهي يمنع أن يكون له حق فيما نهي عنه؛ فكيف يستدل به على إثبات الحق؟ وأيضا فإن الولي يمكنه أن يمنعها من الخروج؛ والمراسلة في عقد النكاح؛ فجائز أن يكون النهي عن العضل منصرفا إلى هذا الضرب من المنع; لأنها في الأغلب تكون في يد الولي؛ بحيث يمكنه منعها من ذلك؛ ووجه آخر من دلالة الآية على ما ذكرنا؛ وهو أنه لما كان الولي منهيا عن العضل إذا زوجت هي نفسها من كفؤ فلا حق له في ذلك؛ كما لو نهي عن الربا؛ والعقود الفاسدة؛ لم يكن له حق فيما قد نهي عنه؛ فلم يكن له فسخه؛ وإذا اختصموا إلى الحاكم فلو منع الحاكم من مثل هذا العقد كان ظالما؛ مانعا مما هو محظور عليه منعه؛ فيبطل حقه أيضا في الفسخ؛ فيبقى العقد لا حق لأحد في فسخه؛ فينفذ؛ ويجوز.

فإن قيل: إنما نهى الله – سبحانه - الولي عن العضل إذا تراضوا بينهم بالمعروف؛ فدل ذلك على أنه ليس بمعروف إذا عقده غير الولي؛ قيل له: قد علمنا أن المعروف؛ مهما كان من شيء؛ فغير جائز أن يكون عقد الولي؛ وذلك لأن في نص الآية جواز عقدها؛ ونهي الولي عن منعها؛ فغير جائز أن يكون معنى المعروف ألا يجوز عقدها؛ لما فيه من نفي موجب [ ص: 101 ] الآية؛ وذلك لا يكون إلا على وجه النسخ؛ ومعلوم امتناع جواز الناسخ؛ والمنسوخ في خطاب واحد; لأن النسخ لا يجوز إلا بعد استقرار الحكم؛ والتمكن من الفعل؛ فثبت بذلك أن المعروف المشروط في تراضيهما ليس هو الولي؛ وأيضا فإن الباء تصحب الأبدال؛ فإنما انصرف ذلك إلى مقدار المهر؛ وهو أن يكون مهر مثلها؛ لا نقص فيه؛ ولذلك قال أبو حنيفة : إنها إذا نقصت من مهر المثل فللأولياء أن يفرقوا بينهما.

ونظير هذه الآية في جواز النكاح بغير ولي قوله (تعالى): فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا ؛ فقد حوى الدلالة من وجهين على ما ذكرنا؛ أحدهما إضافته عقد النكاح إليها في قوله: حتى تنكح زوجا غيره ؛ والثاني: فلا جناح عليهما أن يتراجعا ؛ فنسب التراجع إليهما من غير ذكر الولي؛ ومن دلائل القرآن على ذلك قوله (تعالى): فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف ؛ فجاز فعلها في نفسها من غير شرط الولي؛ وفي إثبات شرط الولي في صحة العقد نفي لموجب الآية.

فإن قيل: إنما أراد بذلك اختيار الأزواج؛ وألا يجوز العقد عليها إلا بإذنها؛ قيل له: هذا غلط من وجهين؛ أحدهما عموم اللفظ في اختيار الأزواج؛ وفي غيره؛ والثاني أن اختيار الأزواج لا يحصل لها به فعل في نفسها؛ وإنما يحصل ذلك بالعقد الذي يتعلق به أحكام النكاح؛ وأيضا فقد ذكر الاختيار مع العقد بقوله: إذا تراضوا بينهم بالمعروف .

التالي السابق


الخدمات العلمية