الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ثم دخلت سنة إحدى وستين وأربعمائة

فمن الحوادث فيها:

أن الرغبات في الوزارة زادت ، فطلبها من لا يصلح ، واستقر أمر ابن عبد الرحيم ، فكتب العوام الرقاع وألصقوها في الجامع باللعن لمن يسعى في هذا؛ لأن ابن عبد الرحيم كان مع البساسيري نهب الحرم ، وقالت خاتون للخليفة: هذا الرجل من جملة من نهبني ، وكان ابن جهير يواصل السؤال في العفو عن نفسه ، وتكلمت القهرمانة في حقه ، وبذل عنه خمسة عشر ألف دينار ، فوقعت الإجابة ، وأعفي من المال ، وبعث حاجب الباب أبو عبد الله المردوسي ومعه خادمان لاستدعائه ، فأقبل إلى بغداد في يوم الأربعاء ثاني عشر صفر ، وفرح الناس بمجيئه حتى صام بعضهم وتصدق آخرون ، وصعد الخليفة إلى المنظرة التي على الحلبة لمشاهدته ، فلما نزل إلى هناك نزل تحتها وقبل الأرض ودعا ، ثم ركب والعوام حوله ، فلما وصل إلى باب النوبي نزل فقبل العتبة ، ثم دخل إلى الديوان ، وانتهى حضوره ، فخرج في التوقيع: وقف على ما أنهيته ، وحصولك واستقرارك بمقر عز خدمتك من الديوان ، مشمولا بعز خدمتك الخدمة الشريفة ، قد أكمل الله لك بيمن بركتها كل بغية ، وأعادك إلى أفضل ما عهدته ، وليس فيما جرى بقادح في موضعك ، فأكثر حمد الله على ما أولاك .

ثم جمع الناس إلى بيت النوبة في يوم [ ص: 112 ] الأربعاء ثالث ربيع الأول ، وجلس الخليفة في التاج على دجلة وأوصل الوزير وولداه إلى حضرته فقال للوزير: الحمد لله جامع الشمل بعد شتاته ، وواصل الحبل بعد بتاته ، ثم خلع عليهم وركبوا في يوم الجمعة سادس ربيع الأول إلى جامع المدينة في موكب كبير ، والناس يضجون بالدعاء والسرور به ، ومدحه ابن الفضل فقال:


قد رجع الحق إلى نصابه وأنت من دون الورى أولى به     ما كنت إلا السيف سلته يد
ثم أعادته إلى قرابه     هزته حتى إذا رأته صارما
رؤيته تغنيك عن ضرابه     أكرم بها وزارة ما سلمت
ما استودعت إلا إلى أربابه     مشوقة إليك مذ فارقتها
شوق أخي الشيب إلى شبابه      [حاولها قوم ومن هذا الذي
يخرج ليثا حادرا من غابه ]     يدمي أبو الأشبال من زاحمه
في خيسه بظفره ونابه     وهل رأيت أو سمعت لابسا
ما خلع الأرقم من ثيابه     إن الهلال يرتجى طلوعه
بعد السرار ليلة احتجابه     والشمس لا يئوس من طلوعها
وإن طواها الليل في جلبابه     ما أطيب الأوطان إلا أنها
أحلى عليه أثر اغترابه     لو قرب الدر على جالبه
ما لجج الغائص في طلابه     ولو أقام لازما أصدافه
لم تكن التيجان في حسابه     ما لؤلؤ البحر ولا مرجانه
إلا وراء الهول من عبابه     من يعشق العلياء يلق عندها
ما لقي المحب من أحبابه     طورا صدودا ووصالا مرة
ولذة الوامق في عتابه



[ ص: 113 ]

ذل لفخر الدولة الصعب الذرى     وعلم الإمام من آدابه

وفي ربيع الآخر: جرت فتنة لأجل أبي الوفاء بن عقيل ، وكان أصحابنا قد نقموا عليه تردده إلى أبي علي بن الوليد لأجل أشياء كان يقولها ، وكان في ابن عقيل فيه فطنة وذكاء ، فأحب الاطلاع على [كل] مذهب يقصد ابن الوليد ، وقرأ عليه شيئا من الكلام في السر ، وكان ربما تأول بعض أخبار الصفات ، فإذا أنكر عليه ذلك حاول عنه ، واتفق أنه مرض فأعطى رجلا [ممن كان] يلوذ به يقال له: معالي الحائك بعض كتبه ، وقال له: إن مت فأحرقها بعدي ، فاطلع عليها ذلك الرجل ، فرأى فيها ما يدل على تعظيم المعتزلة والرحم على الحلاج ، وكان قد صنف في مدح الحلاج جزءا في زمان شبابه ، وذلك الجزء عندي بخطه ، تأول فيه أقواله وأفعاله ، وفسر أسراره ، واعتذر له ، فمضى ذلك الحائك فأطلع على ذلك الشريف أبا جعفر وغيره ، فاشتد ذلك على أصحابنا ، وراموا الإيقاع به ، فاختفى ثم التجأ إلى باب المراتب ، ولم يزل في [الأمر] يختبط إلى أن آل إلى الصلاح في سنة خمس وستين .

التالي السابق


الخدمات العلمية