الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما قرر أن من ترك سبيل الرشد كان كالأعمى؛ ومن تبعها كان كالبصير؛ أتبعه دليله؛ فقال - محذرا للبصراء عن الاغترار بوساوس الأشقياء -: وإن ؛ أي: وأكثر هؤلاء أعمى؛ قد افتتن في نفسه بهواه؛ مع بياننا لطريق الرشد؛ بما أوحينا إليك من هذه الحكمة؛ حتى صارت أوضح من الشمس؛ وإن الأعداء؛ كادوا ؛ أي: قاربوا في هذه الحياة الدنيا؛ لعماهم في أنفسهم عن عصمة الله لك؛ بسبب عماهم عما جبلت عليه من الفطنة؛ وجودة الفطرة؛ وذكاء القريحة؛ وثقوب الفهم؛ وبعد المرمى في الوقوف على خداع المخادعين؛ ومكر الماكرين؛ [ ص: 480 ] لتجلي الدقائق في مرآة قلبك الصقيلة؛ وصافي فكرتك الشفافة؛ ولما كانت "إن" مخففة من الثقيلة؛ أتى باللام الفارقة بينها وبين النافية؛ فقال (تعالى): ليفتنونك ؛ أي: ليخالطونك مخالطة تمليك؛ إلى جهة قصدهم؛ بكثرة خداعهم؛ بإطماعهم لك في الموافقة لما يعلمون من ظاهر الحياة الدنيا؛ عن الذي أوحينا ؛ أي: بما لنا من العظمة؛ إليك ؛ من الحكمة؛ لتفتري ؛ أي: تقطع متعمدا؛ علينا ؛ على عظمتنا؛ غيره ؛ من طرد من أوحينا إليك الأمر بمصابرتهم؛ إطماعا منهم في إسلام من هو بحيث يرجى بإسلامه إسلام الجم الغفير منهم؛ لشرفه؛ ونحو ذلك؛ مما عناه الله - سبحانه -؛ وهو أعلم بمراده; قال الرماني: وأصل الفتنة ما يطلب به خلاص الشيء مما لابسه؛ وإذا ؛ أي: لو ملت إليهم؛ لاتخذوك ؛ أي: بغاية الرغبة؛ خليلا ؛ ومن كان خليل الكفار؛ لم يكن خليل الله؛ ولكنك أبصرت رشدك؛ فلزمت أمر الله؛ واستمروا على عماهم؛ إتماما لتفضيلنا لك على كل مخلوق؛ وقد تقدم قريبا ما تدور عليه مادة "فرا"؛ وأنه السعة؛ وقد بقي من تقاليبها اليائي؛ والمهموز؛ فمعنى "فريت الأديم": شققته؛ فاسدا أو صالحا؛ لأنه يتسع بذلك؛ [ ص: 481 ] وقال القزاز: "الفري": مصدر "فريت الأديم"؛ إذا شققته للإصلاح؛ و"أفريته"؛ إذا شققته للإفساد؛ كأن همزته للإزالة؛ وحكى أبو عبيدة: "فريت الشيء"؛ و"أفريته": قطعته؛ و"فرى الكذب"؛ و"افتراه": اختلقه؛ لأنه اتساع في القول؛ وزيادة على ما يكفي من الصدق؛ وتجاوز للحد؛ و"فرى المزادة": خلقها؛ وصنعها؛ وقال القزاز: خرزها؛ لأنها تسع ما لا تسعه قبل الخرز؛ قال: وأصل "الفري": الشق؛ يعني: والخرز واقع في الشق؛ فالعلاقة المحل؛ و"فرى الأرض": سارها وقطعها؛ تشبيها لها بالأديم؛ و"فري"؛ كـ "رضي": تحير ودهش؛ من التسمية باسم السبب؛ لأن سبب الدهش كثرة وعظم في المحسوس؛ و"أفراه": أصلحه؛ أو أمر بإصلاحه؛ لأن الإصلاح سعة بالنسبة إلى الإفساد؛ و"أفرى فلانا": لامه؛ لأنه يلزم منه الزيادة في الكلام لما يحاج به الملوم؛ و"الفرية": الجلبة؛ لأنها زيادة عن الكلام المعتاد؛ وبالكسر: الكذب؛ وكـ "غني": الأمر المختلق المصنوع؛ أو العظيم؛ والواسعة من الدلاء؛ كـ "الفرية"؛ والحليب ساعة يحلب؛ لارتفاع الرغوة؛ و"تفرى الشيء": انشق؛ و"العين": انبجست؛ و"هو يفري الفري"؛ كـ "غني": [ ص: 482 ] يأتي بالعجب في عمله.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال القزاز: و"تركت فلانا يفري؛ ويقد"؛ أي: حادا في الأمر؛ و"فلانا يفري منذ اليوم"؛ إذا جاء بالعجب؛ لأنه لا يعجب إلا ما زاد على الكفاية.

                                                                                                                                                                                                                                      و"الرفة": التبن؛ لأنه ما فضل عن الحب؛ و"الرفة": دويبة تصيد؛ تسمى عناق الأرض؛ لأن حالها أوسع من حال ما لا يصيد؛ ذكر هذا صاحب مختصر العين؛ في المعتل بالياء؛ فوزنه "ثبة"؛ وساقه صاحب القاموس في الهاء؛ وقال فيما مدلوله التبن: إنه كـ "صرد"؛ ثم ساقه في المعتل الواوي؛ في "ورف"؛ وقال: و"الرفة"؛ كـ "ثبة": التبن؛ فاضطرب كلامه؛ فوجب قبول مختصر العين؛ لكن ذكره الإمام أبو غالب بن التياني - وهو من يخضع له - في كتابه "الموعب"؛ في مقلوب "رهف"؛ فقال - ناسبا له إلى كتاب العين - ما نصه: و"الرفة": التبن؛ قال غيره: ويقال في مثل من الأمثال: استغنت التفة عن الرفة"؛ و"التفة": عناق الأرض؛ وهي دويبة كالثعلب خبيثة؛ تصيد كل شيء؛ وذلك أنها لا تأكل [ ص: 483 ] إلا اللحم؛ أبو حنيفة مثله؛ كله انتهى بحروفه؛ وقال صاحب القاموس في المعتل: و"التفة"؛ ذكر في "ت ف ف"؛ وقال في الهاء: و"التفة"؛ كـ "ثبة": عناق الأرض؛ وقال في الفاء: و"التفة"؛ كـ "قفة": دويبة كجرو الكلب؛ أو كالفأرة؛ و"استغنت التفة عن الرفة"; ويخففان؛ يضرب للئيم إذا شبع؛ فلعل هذا الاختلاف لغات؛ والله أعلم.

                                                                                                                                                                                                                                      قال في مختصر العين: و"الأرفي"؛ مثل "كركي": اللبن المحض الطيب؛ لفيضه كالغائر؛ جعله المختصر يائيا؛ والقاموس واويا؛ ثم أعاده في المهموز؛ فقال: و"الأرفي"؛ كـ "قمري": اللبن الخالص؛ وساق القزاز في اليائي: "رافيت الرجل أرافيه مرافاة"؛ إذا وافقته؛ لأن ذلك أوسع في العشرة؛ و"الريف"؛ بالكسر: الخصب؛ وقال في القاموس: "أرض فيها زرع وخصب؛ والسعة في المأكل والمشرب؛ وما قارب الماء من أرض العرب؛ أو حيث الخضر والمياه والزروع؛ و"راف البدوي": أتى الريف؛ و"الراف": الخمر؛ وهو لا يكون إلا عن سعة؛ و"أرض ريفة" كـ "كيسة": خصبة؛ و"أرافت الأرض": أخصبت.

                                                                                                                                                                                                                                      ومن المهموز: "رفأ السفينة"؛ كمنع؛ و"أرفأها": أدناها من الشط؛ [ ص: 484 ] لاتساع من فيها بالبر؛ وبالنسبة إليها يكون للسلب؛ والموضع "مرفأ"؛ ويضم؛ و"رفأ بينهم": أصلح؛ و"أرفأ"؛ جنح؛ وامتشط؛ ودنى؛ وأدنى؛ وحابى؛ ودارأ؛ كـ "رافأ"؛ وإليه لجأ؛ و"ترافؤوا": توافقوا؛ وتواطؤوا؛ و"اليرفئي"؛ كـ "اليلمعي": راعي الغنم؛ والظليم النافر؛ والظبي القفوز المولي؛ والمنتزع القلب فزعا؛ كأنه شبه بالظليم في اتساع حركته؛ وعدم ثباته؛ وذلك شبيه أيضا بفوران القدر؛ في مجاوزة الحد؛ و"رفأت العروس ترفئة؛ وترفيئا"؛ تقدم في الواوي؛ و"الرأف": الخمر؛ والرجل الرحيم؛ أو الرأفة - أشد الرحمة؛ أو أرقها -؛ ولا شك في دخول ذلك في السعة؛ و"رأف": موضع؛ أو رملة؛ ولعلهما واسعان؛ و"الفرأ"؛ كـ "جبل"؛ و"سحاب": حمار الوحش؛ أو الفتي منه؛ لشدة نفاره؛ كالقدر في فورانها؛ و"أمر فريء": كـ "فري"؛ و"كل الصيد في جوف الفرا"؛ أي: كله دونه؛ و"فرأ"؛ محركة: جزيرة باليمن؛ لعله بها بكثرة؛ و"الفأر"؛ معروف؛ والواحدة "فأرة"؛ والجمع "فئران"؛ سمي لقفزه في جريه؛ ولأنه وسع من الحشرات تصرفا؛ بالمشي في الجدر؛ والسقوف؛ ونحوها؛ و"الفأرة": شجرة؛ ونافجة [ ص: 485 ] المسك؛ قال في القاموس: أو الصواب إيراد "فارة المسك"؛ في "ف و ر"؛ لفوران رائحتها؛ أو يجوز همزها؛ لأنها على هيئة الفأرة؛ و"فأر"؛ كـ "منع": حفر؛ وخبأ؛ ودفن؛ يمكن أن يكون من السعة؛ ومن سلبها; و"لبن فئر"؛ كـ "كتف": وقعت فيه الفأرة؛ و"أرض فئرة؛ ومفأرة": كثيرة الفأر؛ و"أفرت القدر - بالفتح -؛ تأفر أفرا": اشتد غليانها؛ و"الإنسان": وثب؛ وعدا؛ و"البعير": نشط؛ وسمن؛ بعد الجهد؛ كـ "أفر" - كـ "فرح" -؛ فيهما؛ وخف في الخدمة؛ والذي يسعى بين يدي الإنسان ويخدمه "مئفر"؛ و"الأفرة"؛ بضمتين؛ وتشديد الراء: الجماعة - وقيدها في مختصر العين بـ "ذات الجلبة" -؛ والبلية؛ والاختلاط؛ وكل ذلك واضح في الاتساع؛ والزيادة على الكفاية؛ و"الأفرة"؛ أيضا: شدة الشر؛ لشدة فورانه؛ كالقدر؛ وشدة الشتاء؛ أو مطلق الشدة؛ و"من الصيف": أوله؛ لأنه يتسع به؛ قال في القاموس: ويفتح أولها ويحرك في الكل; و"الأرفة"؛ بالضم: الحد بين الأرضين؛ والعقدة؛ وكأن هذا سلب الاتساع؛ و"الأرفي"؛ كـ "قمري": الماسح؛ و"أرف على الأرض تأريفا": جعلت لها حدود؛ وقسمت؛ [ ص: 486 ] و"تأريف الحبل": عقده؛ و"هو مؤارفي": حده إلى حدي؛ في السكنى والمكان؛ والله الموفق.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية