الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا أشحة عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيرا يحسبون الأحزاب لم يذهبوا وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أنبائكم ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا

                                                                                                                                                                                                "المعوقين " المثبطين عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وهم المنافقون ، كانوا يقولون "لإخوانهم " من ساكني المدينة من أنصار رسول الله -صلى الله عليه وسلم - : ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس ، ولو كانوا لحما لالتهمهم أبو سفيان وأصحابه ، فخلوهم و هلم إلينا أي : قربوا أنفسكم إلينا . وهي لغة أهل الحجاز : يسوون فيه بين الواحد والجماعة . وأما تميم فيقولون : هلم يا رجل ، وهلموا يا رجال ، وهو صوت سمي به فعل متعد مثل احضر وقرب قل هلم شهداءكم إلا قليلا إلا إتيانا قليلا يخرجون مع المؤمنين يوهمونهم أنهم معهم ، ولا نراهم يبارزون ويقاتلون إلا شيئا قليلا إذا اضطروا إليه ، كقوله : ما قاتلوا إلا قليلا . أشحة عليكم في وقت الحرب أضناء بكم ، يترفرفون عليكم كما يفعل الرجل بالذاب عنه المناضل دونه عند الخوف ينظرون إليك في تلك الحالة كما ينظر المغشي عليه من معالجة سكرات الموت حذرا أو خورا ولواذا بك ، فإذا ذهب الخوف وحيزت الغنائم ووقعت القسمة : نقلوا ذلك الشح وتلك الضنة والرفرفة عليكم إلى الخير -وهو المال والغنيمة - ونسوا تلك الحالة الأولى ، واجترؤوا عليكم وضربوكم بألسنتهم وقالوا : وفروا قسمتنا فإنا قد شاهدناكم وقاتلنا معكم ، وبمكاننا غلبتم عدوكم وبنا نصرتم عليه . ونصب "أشحة " على الحال أو على الذم . وقرئ : (أشحة ) بالرفع . و (صلقوكم ) بالصاد . فإن قلت : هل يثبت للمنافق عمل حتى يرد عليه الإحباط ؟ قلت : لا ولكنه تعلم لمن عسى يظن أن الإيمان باللسان إيمان وإن لم يوطئه القلب ، وأن ما يعمل المنافق من الأعمال يجدي [ ص: 58 ] عليه ، فبين أن إيمانه ليس بإيمان ، وأن كل عمل يوجد منه باطل . وفيه بعث على إتقان المكلف أساس أمره وهو الإيمان الصحيح ، وتنبيه على أن الأعمال الكثيرة من غير تصحيح المعرفة كالبناء على غير أساس ، وأنها مما يذهب عند الله هباء منثورا . فإن قلت : ما معنى قوله : وكان ذلك على الله يسيرا وكل شيء عليه يسير ؟ قلت : معناه : أن أعمالهم حقيقة بالإحباط ، تدعو إليه الدواعي ، ولا يصرف عنه صارفيحسبون أن الأحزاب لم ينهزموا ، وقد انهزموا فانصرفوا عن الخندق إلى المدينة راجعين لما نزل بهم من الخوف الشديد ودخلهم من الجبن المفرط وإن يأت الأحزاب كرة ثانية ، تمنوا لخوفهم مما منوا به هذه الكرة أنهم خارجون إلى البدو حاصلون بين الأعراب "يسألون " كل قادم منهم من جانب المدينة عن أخباركم وعما جرى عليكم ولو كانوا فيكم ولم يرجعوا إلى المدينة وكان قتال ولم يقاتلوا إلا تعلة رياء وسمعة . وقرئ : (بدى ) على فعل جمع باد كغاز وغزى . وفى رواية صاحب الإقليد : (بدي ) ، بوزن عدي . ويساءلون ، أي : يتساءلون . ومعناه : يقول بعضهم لبعض : ماذا سمعت ؟ ماذا بلغك ؟ أو يتساءلون الأعراب كما تقول : رأيت الهلال وتراءيناه : كان عليكم أن تواسوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم - بأنفسكم فتوازروه وتثبتوا معه ، كما آساكم بنفسه في الصبر على الجهاد والثبات في مرحى الحرب ، حتى كسرت رباعيته يوم أحد وشج وجهه .

                                                                                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                                                                                الخدمات العلمية