الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين

عطف على قوله : ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها ، أو على قوله تعالى : وأهلكنا المسرفين ، وهو تعريض بالتهديد .

[ ص: 24 ] ومناسبة موقعها أنه بعد أن أخبر أنه صدق رسله وعده وهو خبر يفيد ابتداء التنويه بشأن الرسل ونصرهم وبشأن الذين آمنوا بهم . وفيه تعريض بنصر محمد - صلى الله عليه وسلم - وذكر إهلاك المكذبين له تبعا لذلك ، فأعقب ذلك بذكر إهلاك أمم كثيرة من الظالمين ووصف ما حل بهم ؛ ليكون ذلك مقصودا بذاته ابتداء اهتماما به ليقرع أسماعهم ، فهو تعريض بإنذار المشركين بالانقراض بقاعدة قياس المساواة ، وأن الله ينشئ بعدهم أمة مؤمنة كقوله تعالى : إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد في سورة إبراهيم .

و " كم " اسم ، له حق صدر الكلام ؛ لأن أصله اسم استفهام عن العدد ، وشاع استعماله للإخبار عن كثرة الشيء على وجه المجاز ؛ لأن الشيء الكثير من شأنه أن يستفهم عنه ، والتقدير : قصمنا كثيرا من القرى فـ " كم " هنا خبرية . وهي واقعة في محل نصب بفعل " قصمنا " . وفي " كم " الدالة على كثرة العدد إيماء إلى أن هذه الكثرة تستلزم عدم تخلف إهلاك هذه القرى ، وبضميمة وصف تلك الأمم بالظلم ، أي الشرك إيماء إلى سبب الإهلاك فحصل منه ومن اسم الكثرة معنى العموم ، فيعلم المشركون التهديد بأن ذلك حال بهم لا محالة بحكم العموم ، وأن هذا ليس مرادا به قرية معينة ، فما روي عن ابن عباس أن المراد بالقرية " حضوراء " بفتح الحاء - مدينة باليمن - قتلوا نبيئا اسمه شعيب بن ذي مهدم في زمن أرمياء نبيء بني إسرائيل ، فسلط الله عليهم بختنصر فأفناهم . فإنما أراد أن هذه القرية ممن شملتهم هذه الآية ، والتقدير : قصمنا كثيرا . وقد تقدم الكلام على قوله تعالى : ألم يروا كم اهلكنا من قبلهم من قرن في سورة الأنعام .

وأطلق القرية على أهلها كما يدل عليه قوله تعالى : وأنشأنا بعدها قوما آخرين .

[ ص: 25 ] ووجه اختيار لفظ قرية هنا نظير ما قدمناه آنفا في قوله تعالى : ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها . وحرف " من " في قوله تعالى : " من قرية " لبيان الجنس ، وهي تدخل على ما فيه معنى التمييز وهي هنا تمييز لإبهام " كم " .

والقصم : الكسر الشديد الذي لا يرجى بعده التئام ولا انتفاع . واستعير للاستئصال والإهلاك القوي ، كإهلاك عاد وثمود وسبأ .

وجملة وأنشأنا بعدها قوما آخرين معترضة بين جملة وكم قصمنا من قرية وجملة فلما أحسوا بأسنا إلخ . فجملة فلما أحسوا بأسنا إلخ تفريع على جملة وكم قصمنا من قرية . وضمير " منها " عائد إلى " قرية " .

والإحساس : الإدراك بالحس ، فيكون برؤية ما يزعجهم أو سماع أصوات مؤذنة بالهلاك ، كالصواعق والرياح .

والبأس : شدة الألم والعذاب . وحرف " من " في قوله : منها يركضون يجوز أن يكون للابتداء ، أي خارجين منها ، ويجوز أن يكون للتعليل بتأويل " يركضون " معنى " يهربون " ، أي من البأس الذي أحسوا به ، فلا بد من تقدير مضاف ، أي من بأسنا الذي أحسوه في القرية . وذلك بحصول أشراط إنذار مثل الزلازل والصواعق .

والركض : سرعة سير الفرس ، وأصله الضرب بالرجل ، فيسمى به العدو ؛ لأن العدو يقتضي قوة الضرب بالرجل ، وأطلق الركض في هذه الآية على سرعة سير الناس على وجه الاستعارة تشبيها لسرعة سيرهم بركض الأفراس .

[ ص: 26 ] و " منها " ظرف مستقر في موضع الحال من الضمير المنفصل المرفوع . ودخلت " إذا " الفجائية في جواب " لما " ؛ للدلالة على أنهم ابتدروا الهروب من شدة الإحساس بالبأس تصويرا لشدة الفزع . وليست " إذا " الفجائية برابطة للجواب بالشرط ؛ لأن هذا الجواب لا يحتاج إلى رابط ، و " إذا " الفجائية قد تكون رابطة للجواب خلفا من الفاء الرابطة حيث يحتاج إلى الرابط ؛ لأن معنى الفجاءة يصلح للربط ولا يلازمه . وجملة " لا تركضوا " معترضة وهي خطاب للراكضين بتخيل كونهم كالحاضرين المشاهدين في وقت حكاية قصتهم ، ترشيحا لما اقتضى اجتلاب حرف المفاجأة ، وهذا كقول مالك بن الريب :

دعاني الهوى من أهل ودي وجيرتي بذي الطبسين فالتفت ورائيا



أي لما دعاه الهوى ، أي ذكره أحبابه وهو غاز بذي الطبسين التفت وراءه كالذي يدعوه داع من خلفه فتخيل الهوى داعيا وراءه . وتكون هذه الجملة معترضة بين جملةفلما أحسوا بأسنا ، وبين جملة قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين . ويجوز جعل الجملة مقول قول محذوف خوطبوا به حينئذ بأن سمعوه بخلق من الله تعالى أو من ملائكة العذاب . وهذا ما فسر به المفسرون ، ويبعده استبعاد أن يكون ذلك واقعا عند كل عذاب أصيبت به كل قرية ، وأيا ما كان فالكلام تهكم بهم .

والإتراف : إعطاء الترف ، وهو النعيم ورفه العيش ، أي ارجعوا إلى ما أعطيتم من الرفاهية وإلى مساكنكم .

[ ص: 27 ] وقوله تعالى " لعلكم تسألون " من جملة التهكم . وذكر المفسرون في معنى " تسألون " احتمالات ستة . أظهرها : أن المعنى : ارجعوا إلى ما كنتم فيه من النعيم لتروا ما آل إليه ، فلعلكم يسألكم سائل عن حال ما أصابكم فتعلموا كيف تجيبون ؛ لأن شأن المسافر أن يسأله الذين يقدم إليهم عن حال البلاد التي تركها من خصب ورخاء أو ضد ذلك ، وفي هذا تكملة للتهكم .

وجملة " قالوا يا ويلنا " إن جعلت جملة " لا تركضوا " معترضة على ما قررته آنفا - تكون هذه مستأنفة استئنافا بيانيا عن جملة إذا هم منها يركضون كأن سائلا سأل عما يقولونه حين يسرعون هاربين ؛ لأن شأن الهارب الفزع أن تصدر منه أقوال تدل على الفزع أو الندم عن الأسباب التي أحلت به المخاوف ، فيجاب بأنهم أيقنوا حين يرون العذاب أنهم كانوا ظالمين ، فيقرون بظلمهم وينشئون التلهف والتندم بقولهم : يا ويلنا إنا كنا ظالمين . وإن جعلت جملة لا تركضوا مقول قول محذوف على ما ذهب إليه المفسرون كانت جملة قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين جوابا لقول من قال لهم : لا تركضوا على وجه التهكم بهم ويكون فصل الجملة ؛ لأنها واقعة في موقع المحاورة كما بيناه غير مرة ، أي قالوا : قد عرفنا ذنبنا وحق التهكم بنا . فاعترفوا بذنبهم . قال تعالى : فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير في سورة الملك .

التالي السابق


الخدمات العلمية