الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (39) قوله : أن اقذفيه : يجوز أن تكون "أن" مفسرة; لأن الوحي بمعنى القول، ولم يذكر الزمخشري غيره، وجوز غيره أن تكون مصدرية. ومحلها حينئذ النصب بدلا من "ما يوحى" والضمائر في قوله "أن اقذفيه" إلى آخرها عائدة على موسى عليه السلام لأنه المحدث عنه. وجوز [ ص: 35 ] بعضهم أن يعود الضمير في قوله "فاقذفيه في اليم" للتابوت، وما بعده وما قبله لموسى عليه السلام. وعابه الزمخشري وجعله تنافرا أو مخرجا للقرآن عن إعجازه فإنه قال: "والضمائر كلها راجعة إلى موسى، ورجوع بعضها إليه وبعضها إلى التابوت فيه هجنة لما يؤدي إليه من تنافر النظم. فإن قلت: المقذوف في البحر هو التابوت وكذلك الملقى إلى الساحل. قلت: ما ضرك لو جعلت المقذوف والملقى به إلى الساحل هو موسى في جوف التابوت حتى لا تفرق الضمائر فيتنافر عليك النظم الذي هو أم إعجاز القرآن والقانون الذي وقع عليه التحدي، ومراعاته أهم ما يجب على المفسر".

                                                                                                                                                                                                                                      قال الشيخ: "ولقائل أن يقول: إن الضمير إذا كان صالحا لأن يعود على الأقرب وعلى الأبعد كان عوده على الأقرب راجحا. وقد نص النحويون على هذا فعوده على التابوت في قوله "فاقذفيه في اليم فليلقه اليم" راجح. والجواب: أن أحدهما إذا كان محدثا عنه والآخر فضلة، كان عوده على المحدث عنه أرجح. ولا يلتفت إلى القرب; ولهذا رددنا على أبي محمد ابن حزم في دعواه: أن الضمير في قوله تعالى: "فإنه رجس" عائد على "خنزير" لا على "لحم" لكونه أقرب مذكور، فيحرم بذلك شحمه وغضروفه وعظمه وجلده، فإن المحدث عنه هو "لحم خنزير" لا خنزير. قلت: قد تقدمت هذه المسألة في الأنعام وما تكلم الناس فيها.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "فليلقه اليم" هذا أمر معناه الخبر، ولكنه أمرا لفظا جزم جوابه في [ ص: 36 ] قوله: "يأخذه". وإنما خرج بصيغة الأمر مبالغة; إذ الأمر أقطع الأفعال وآكدها. وقال الزمخشري: "لما كانت مشيئة الله وإرادته أن لا تخطئ جرية ماء اليم الوصول به إلى الساحل، وألقاه إليه، سلك في ذلك سبيل المجاز، وجعل اليم كأنه ذو تمييز، أمر بذلك ليطيع الأمر ويمتثل رسمه".

                                                                                                                                                                                                                                      و "بالساحل" يحتمل أن يتعلق بمحذوف على أن الباء للحال أي: ملتبسا بالساحل، وأن يتعلق بنفس الفعل على أن الباء ظرفية بمعنى "في".

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "مني" فيه وجهان. قال الزمخشري: "لا يخلو: إما أن يتعلق بـ "ألقيت" فيكون المعنى: على أني أحببتك، ومن أحبه الله أحبته القلوب، وإما أن يتعلق بمحذوف هو صفة لـ "محبة" أي: محبة حاصلة، أو واقعة مني، قد ركزتها أنا في القلوب وزرعتها فيها".

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "ولتصنع" قرأ العامة بكسر اللام وضم التاء وفتح النون على البناء للمفعول، ونصب الفعل بإضمار أن بعد لام كي. وفيه وجهان، أحدهما: أن هذه العلة معطوفة على علة مقدرة قبلها. والتقدير: ليتلطف بك ولتصنع، أو ليعطف عليك وترام ولتصنع. وتلك العلة المقدرة متعلقة بقوله: "وألقيت" أي: ألقيت عليكم المحبة ليعطف عليك ولتصنع. ففي الحقيقة هو متعلق بما قبله من إلقاء المحبة.

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أن هذه اللام تتعلق بمضمر بعدها تقديره: ولتصنع على عيني فعلت ذلك، أو كان كيت وكيت. ومعنى لتصنع أي: لتربى ويحسن إليك، وأنا مراعيك ومراقبك كما يراعي الإنسان الشيء بعينه إذا اعتنى به. قاله الزمخشري.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 37 ] وقرأ الحسن وأبو نهيك "ولتصنع" بفتح التاء. قال ثعلب: "معناه لتكون حركتك وتصرفك على عين مني. وقال قريبا منه الزمخشري. وقال أبو البقاء: "أي لتفعل ما آمرك بمرأى مني".

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ أبو جعفر وشيبة "ولتصنع" بسكون اللام والعين وضم التاء وهو أمر معناه: ليرب وليحسن إليك. وروي عن أبي جعفر في هذه القراءة كسر لام الأمر. قلت: ويحتمل مع كسر اللام أو سكونها حالة تسكين العين أن تكون لام كي، وإنما سكنت تشبيها بكتف وكبد، والفعل منصوب. والتسكين في العين لأجل الإدغام لا يقرأ في الوصل إلا بالإدغام فقط.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية