الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          [ ص: 1117 ] ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ( 8 ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك هم وقود النار كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد

                                                          * * *

                                                          ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا هذه ضراعة يجب على كل مؤمن أن يتضرع بها إلى ربه . وقد قال بعض العلماء إنها من مقول الراسخين في العلم ، فهم يقولون : آمنا به كل من عند ربنا ويقولون أيضا : ربنا لا تزغ قلوبنا وكأنهم إذ يعلنون الإيمان والإذعان يضرعون إلى الله تعالى أن يحفظه ويبقيه بإبعادهم عن الزيغ والاضطراب في العقيدة .

                                                          وقال بعض المفسرين : إن هذا كلام جديد ، وهو تعليم من الله تعالى للمؤمنين ليدعوا بهذا الدعاء ، والمعنى على الحالين : ربنا أي يا خالقنا والعليم بنفوسنا والقيوم على أمورنا لا تزغ قلوبنا لا تبتلينا بابتلاء واختبار تزيغ معه قلوبنا ، وتضطرب معه نفوسنا ، فتكون الإزاغة عن الطريق المستقيم والمنهاج الحق . والزيغ يبتدئ دائما بسيطرة الأهواء على النفوس ، فتضطرب فتحيد ، فيكتب الزيغ فتزيغ ; وهذا كقوله تعالى : فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم

                                                          وروت أم سلمة رضي الله عنها أن أكثر دعاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - : " يا مقلب القلوب ثبت [ ص: 1118 ] قلبي على دينك " فقالت له يا رسول الله ما أكثر دعاءك يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ؟ فقال : " يا أم سلمة ، إنه ليس آدمي إلا وقلبه معلق بين أصبعين من أصابع الله ، فمن شاء أقام ، ومن شاء أزاغ " .

                                                          وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب هذا بقية الدعاء والضراعة التي تجري على ألسنة الراسخين في العلم ، وهي من تعليم الله سبحانه وتعالى ، وهذا الدعاء يتضمن طلب الرحمة ، وقد تضمن الأول طلب تثبيت الإيمان ، وهو أول أبواب الرحمة ، والأصل لكل رحمة ; فبعد أن علمنا الضراعة بأن لا تميل قلوبنا ، وجهنا لطلب الأثر كذلك وهو الرحمة ، ورحمة الله تفضل وإنعام على العبد ; لأنه وما يملك ملك لله تعالى يتصرف فيه كما يتصرف المالك في ملكه ، وليس لأحد عند رب العالمين حساب . والرحمة المطلوبة كلمة شاملة جامعة ، فتجمع النصر في الدنيا والقرار والاطمئنان فيها ، والنعيم في الآخرة . والتعبير بقوله تعالى : من لدنك أي من عندك ، ولدن لا تستعمل بمعنى عند إلا إذا كانت العندية في موضع خطير جليل عال . والمعنى على هذا أن الرحمة فيض من فيوض الله ينزل على عباده كما ينزل المطر من مرتفع السماء إلى الأرض . وقد ختمت الآية الكريمة بما يدل على أن هبة الرحمة شأن من شئون العلي القدير ، ووصف من أوصافه ، فقال سبحانه على ألسنة الضارعين المبتهلين : إنك أنت الوهاب في هذا تأكيد رحمة الله تعالى بعدة مؤكدات ، منها " إن " التي للتوكيد ، ومنها تأكيد الضمير بقوله " أنت " ومنها القصر ، أي لا يهب أحد سواك ، وذلك بتعريف الطرفين ، ومنها التعبير بصيغة المبالغة ، وهي : الوهاب ، وإنه سبحانه قد انفرد بالرحمة وهبة الرحمة لمن يشاء ، وإن رحمته وسعت كل شيء .

                                                          * * *

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية