الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ثم دخلت سنة سبع وستين وأربعمائة

فمن الحوادث فيها:

أنه في صفر مرض القائم بأمر الله مرضا شديدا ، وانتفخ حلقه ، وامتنع من الفصد ، فقصد الوزير فخر الدولة باب الحجرة ليلا وحلف بالأيمان المغلظة أنه لا يبرح حتى يقع الفصد ، فأذن في إحضار الطبيب ، وافتصد فصلح بذلك ، وانزعج الناس في البلد والحريم ونقلوا أموالهم إلى الجانب الغربي ، فلما وقعت العافية سكن الناس .

وفي هذا الشهر: جاء سيل متتابع قاسى الناس منه بلاء صعبا ، قرب أمره من يوم الغرق ، فإن أكثر الأبنية لم تكن تمت ، وإنما رفع الناس من البنيان ما قعدوا فيه فاحتاجوا إلى أن خرج أكثرهم وثيابهم على رءوسهم ، فقعدوا على التلول يقاسون المطر ، وزاد تامرا من ذلك بضعة عشر ذراعا ، ووقع وباء بالرحبة ، فهلك فيه عشرة آلاف إنسان ، وكذلك في أوانا ، وصريفين ، وعكبرا ، وطريق خراسان ، وواسط ، والبصرة ، وخوزستان .

وفي يوم الخميس الثامن والعشرين من رجب: فصد الخليفة من ماشرى لحقته ، وكان من وقت الغرق يعتاده المرض ، فنام بعد الفصد فأنفج فصاده وانتبه ، وقد مضت القوة ووقع اليأس منه ، وكثر الإرجاف به ، وماج الناس واختلطوا ، ونقلوا أموالهم من الحريم إلى دواخل الدار وإلى الجانب الغربي ، وخيف من العيارين ، وكانوا [ ص: 162 ] يقامرون ويقترضون على موت الخليفة لينهبوا ، فلما أحس الخليفة بانقراض المدة استدعى عدة الدين وقال له: يا بني ، قد استخدمت في أيامي ابن أيوب ، وابن المسلمة ، وابن دارسة ، وابن جهير ، فما رأيت أصلح للدولة من ابن جهير وولده ، فلا تعدل عنهما . فقبل يده وبكى بين يديه ، وأحضرت الدواة وكتب القائم بأمر الله رقعة بذاك إليه ، وقال: اكتب خطك في جوابها ، وبالإجابة وبالتعويل على عميد الملك في وزارتك تعويل معرض غير معترض عليك . فكتب فأحضر قاضي القضاة والنقيبان والشهود في يوم الأحد تاسع شعبان ، فأقاموا في الديوان إلى الليل ، ثم استدعوا مع الوزير إلى الحجرة ، وكان الخليفة وراء الشباك مستندا وعدة الدين قائم على رأسه ، والقوم يسمعون كلامه ولا يرون شخصه فقال: اشهدوا على ما تضمنته هذه الرقعة التي كتبت فيها سطرين بخطي . فقالوا: السمع والطاعة . وأسبلت الستارة .

وكان مضمون الرقعة ولاية العهد لعدة الدين ، ورد الأمر إليه والوصاة له بما يجب الرضا به .

ونسختها: بسم الله الرحمن الرحيم ، إن أمير المؤمنين يحكم ما وكله الله إليه من أمور عباده [وبلاده] وأوجبه عليه من صلة طريقه في إحسان الإيالة بقلاده ، رأى أن ينتهي في مراعاة أحوال المسلمين ، والنظر في مصالحهم ، وإسباغ ظل العاطفة على أكابرهم وأصاغرهم إلى الحد الذي تحلى مشارتهم من ملابس [الكبد ، وتعرى مشارتهم من ملابس] الحذر ، فلذلك اقتضت عزائمه الميمونة [ ص: 163 ] إحضار وزير دولته الناظر في خدمته محمد بن محمد بن جهير وولده ، ونقيب النقباء طراد بن محمد ، وقاضى القضاة محمد بن علي ، والمعمر بن محمد نقيب الطالبيين ، ومحمد بن محمد البيضاوي ، وعبد الله بن عبد السيد السيبي ، وعبد الله بن محمد الدامغاني في ليلة الأحد التاسع من شعبان سنة سبع وستين وأربعمائة ، فحين مثلوا بين سدته الشريفة أنعم متبرعا في إيصاله من رأيه ، ونفاذ عزائمه بمشافهة سلالته الطاهرة أبي القاسم عبيد الله بن محمد أمير المؤمنين بتوليته العهد ، وتصييره خليفة بعده في المسلمين ، ووصاه بما يطابق الشرع في مثل هذه الحال ، ويحل من رضى الله أجل المحال ، حيث وجده أهلا لذلك وراءه ، واستوثق كل مسعى له في الرشاد وارتضاه ، وألفاه ناهضا بأعباء ما ولاه ، ناهجا للسنن الذي أوجبه جميل خلاله ، وأوصاه مجتمعة فيه شرائط ما فوضه إليه واستكفاه ، والله يمد أمير المؤمنين بالتوفيق في إيجابه وعزائمه ، ويقرن التشديد بمفاتح عزمه وخواتمه ، ويحسن الخيرة له ولولي عهده ولكافة المسلمين فيما أذن فيه ، وقصد به إحكام [دعائم] الصلاح ومبانيه بمنه .

والسطران الملحقان: لا يغير للخدم حال ، ولا يزعجوا في ملك ولا إقطاع .

واستدعى عدة الدين من الغد عميد الدولة أبا منصور ، وتقدم بإفاضة الخلع عليه ، وماج الناس بالإرجاف على الخليفة بالوفاة ، ورتب الوزير فخر الدولة الأتراك والهاشميين بالسلاح يطوفون ، وتقدم إلى الشحنة أن يضرب خيما عند دار المملكة ، فقامت الهيبة ، واتفقت الوفاة ليلة الخميس الثالث عشر من شعبان ، وجلس الوزير فخر الدولة وولده عميد الدولة في الديوان العزيز على الأرض حافيين ، قد خرقا ثوبيهما ، ونحيا عمامتيهما ، وطرحا رداءين لطيفين عوضهما ، وفعل الناس مثل ذلك ، ومنع عدة الدين الجواري والخدم من الصراخ .

التالي السابق


الخدمات العلمية