الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون أم عندهم خزائن ربك أم هم المصيطرون أم لهم سلم يستمعون فيه فليأت مستمعهم بسلطان مبين أم له البنات ولكم البنون أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون أم عندهم الغيب فهم يكتبون أم يريدون كيدا فالذين كفروا هم المكيدون أم لهم إله غير الله سبحان الله عما يشركون

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: أم خلقوا من غير شيء فيه أربعة أقوال . [ ص: 56 ] أحدها: أم خلقوا من غير رب خالق؟

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أم خلقوا من غير آباء ولا أمهات، فهم كالجماد لا يعقلون؟

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث: أم خلقوا من غير شيء كالسماوات والأرض؟ أي: إنهم ليسوا بأشد خلقا من السماوات والأرض، لأنها خلقت من غير شيء وهم خلقوا من آدم وآدم من تراب .

                                                                                                                                                                                                                                      والرابع: أم خلقوا لغير شيء؟ فتكون "من" بمعنى اللام . والمعنى: ما خلقوا عبثا فلا يؤمرون ولا ينهون .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: أم هم الخالقون فلذلك لا يأتمرون ولا ينتهون؟ لأن الخالق لا يؤمر ولا ينهى .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: تعالى بل لا يوقنون بالحق، وهو توحيد الله وقدرته على البعث . قوله تعالى: أم عندهم خزائن ربك فيه ثلاثة أقوال . أحدها: المطر والرزق، قاله ابن عباس . والثاني: النبوة، قاله عكرمة . والثالث: علم ما يكون من الغيب، ذكره الثعلبي .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الزجاج: المعنى: أعندهم ما في خزائن ربك من العلم، وقيل: من الرزق، فهم معرضون عن ربهم لاستغنائهم؟!

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: أم هم المصيطرون قرأ ابن كثير: "المسيطرون" بالسين . وقال ابن عباس: المسلطون . قال أبو عبيدة: "المصيطرون": الأرباب . يقال: تسيطرت علي، أي: اتخذتني خولا، قال: ولم يأت في كلام العرب اسم على "مفيعل" إلا خمسة أسماء: مهيمن، ومجيمر، ومسيطر، ومبيطر، ومبيقر; فالمهيمن: الله الناظر المحصي الذي لا يفوته [ ص: 57 ] شيء; ومجيمر: جبل; والمسيطر: المسلط; ومبيطر: بيطار; والمبيقر: الذي يخرج من أرض إلى أرض، يقال: بيقر: إذا خرج من بلد إلى بلد . قال امرؤ القيس:


                                                                                                                                                                                                                                      ألا هل أتاها والحوادث جمة بأن امرأ القيس بن تملك بيقرا؟



                                                                                                                                                                                                                                      قال الزجاج: المسيطرون: الأرباب المسلطون، يقال: قد تسيطر علينا وتصيطر: بالسين والصاد، والأصل السين، وكل سين بعدها طاء، فيجوز أن تقلب صادا، تقول سطر وصطر، وسطا علينا وصطا . قال المفسرون: معنى الكلام: أم هم الأرباب فيفعلون ما شاؤوا ولا يكونون تحت أمر ولا نهى؟!

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: أم لهم سلم أي: مرقى ومصعد إلى السماء يستمعون فيه أي: عليه الوحي، كقوله: في جذوع النخل [طه: 71] فالمعنى: يستمعون [الوحي] فيعلمون أن ما هم عليه حق فليأت مستمعهم إن ادعى ذلك بسلطان مبين أي، بحجة واضحة كما أتى محمد بحجة على قوله .

                                                                                                                                                                                                                                      أم له البنات ولكم البنون هذا إنكار عليهم حين جعلوا لله البنات .

                                                                                                                                                                                                                                      أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون أي: هل سألتهم أجرا على ما جئت به، فأثقلهم ذلك الذي تطلبه منهم فمنعهم عن الإسلام؟ والمغرم بمعنى الغرم، وقد شرحناه في [براءة: 98] .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: أم عندهم الغيب هذا جواب لقولهم: نتربص به ريب المنون والمعنى: أعندهم الغيب؟ وفيه قولان .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: أنه اللوح المحفوظ، فهم يكتبون ما فيه ويخبرون الناس . قاله ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 58 ] والثاني: أعندهم علم الغيب فيعلمون أن محمدا يموت قبلهم فهم يكتبون أي، يحكمون فيقولون: سنقهرك . والكتاب: الحكم; ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "سأقضي بينكما بكتاب الله" أي: بحكم الله عز وجل; وإلى هذا المعنى: ذهب ابن قتيبة .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: أم يريدون كيدا وهو ما كانوا عزموا عليه في دار الندوة; وقد شرحنا ذلك في قوله: وإذ يمكر بك الذين كفروا [الأنفال: 30] ومعنى هم المكيدون هم المجزيون بكيدهم، لأن ضرر ذلك عاد عليهم فقتلوا ببدر وغيرها .

                                                                                                                                                                                                                                      أم لهم إله غير الله أي ألهم إله يرزقهم ويحفظهم غير الله؟ والمعنى أن الأصنام ليست بآلهة، لأنها لا تنفع ولا تدفع . ثم نزه نفسه عن شركهم بباقي الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية