الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 180 ] ثم دخلت سنة تسع وستين وأربعمائة

فمن الحوادث فيها:

[مرض الخليفة]

أنه مرض الخليفة في المحرم فأرجف به ، فركب في التاج حتى رآه العوام فسكنوا .

وكان بالمدينة أمير يقال له: الحسين بن مهنأ قد وضع على من يرد لزيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم ضريبة تشبيها بما يفعل بمكة ، وإنما كان يؤخذ من التجار القاصدين مكة ، فأما المدينة فإنه لا يراد منها إلا الزيارة ، ونشأت بذلك السمعة ، فدخل رجل علوي المدينة فخطب بها للمصري في صفر ، وهرب ابن مهنأ .

وكان قد توفي محمود بن نصر صاحب حلب ووصى لابنه شبيب بالبلد والقلعة ، فلم يتم ذلك وأعطيها ولده الأكبر واسمه: نصر ، فسلك طريق أبيه في كرمه ، وقد مدحه ابن حيوس بقصيدة فقال فيها:


ثمانية لم تفترق مذ جمعتها ولا افترقت ما فر عن ناظر شفر     ضميرك والتقوى وجودك والغنى
ولفظك والمعنى وعزمك والنصر     وكان لمحمود بن نصر سجية
وغالب ظني أن سيخلفها نصر

فقال: والله لو قال سيضعفها نصر لأضعفتها له ، وأمر له بما أمر له أبوه ، وهو ألف دينار في طبق فضة ، وكان على بابه جماعة من الشعراء فقال أحدهم:


على بابك المعمور منا عصابة     مفاليس فانظر في أمور المفاليس

[ ص: 181 ]

وقد قنعت منك العصابة كلها     بعشر الذي أعطيته لابن حيوس
وما بيننا هذا التفاوت كله     ولكن سعيد لا يقاس بمنحوس

فقال: والله لو قال مثل الذي أعطيته لأعطيتهم ذلك . وأمر لهم بنصفه ، ثم إنه وثب على هذا الأمير بعض الأتراك فقتله ، وولي أخوه سابور بن محمود ، وهو الذي نص عليه أبوه .

[زيادة دجلة إحدى وعشرين ذراعا]

وفي جمادى الآخرة: زادت دجلة فبلغت الزيادة إحدى وعشرين ذراعا ونصفا ، ونقل الناس أموالهم ، وخرج الوزير فخر الدولة إلى الفورح وبات عليه ، وخيف من دخول الماء إلى دار الخلافة فنقل تابوت القائم بأمر الله ليلا إلى الترب بالرصافة .

[وقوع الفتنة بين الحنابلة والأشعرية ]

وفي شوال: وقعت الفتنة بين الحنابلة والأشعرية ، وكان السبب أنه ورد إلى بغداد أبو نصر ابن القشيري ، وجلس في النظامية ، وأخذ يذم الحنابلة وينسبهم إلى التجسيم ، وكان المتعصب له أبو سعد الصوفي ، ومال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي إلى نصرة القشيري ، وكتب إلى النظام يشكو الحنابلة ويسأله المعونة ، ويسأل الشريف أبا جعفر ، وكان مقيما بالرصافة ، فبلغه أن القشيري على نية الصلاة في جامع الرصافة يوم الجمعة ، فمضى إلى باب المراتب فأقام أياما ، ثم مضى إلى المسجد المعروف اليوم بابن شافع وهو المقابل لباب النوبي ، فأقام فيه وكان يبذل لليهود مالا ليسلموا على يد ابن القشيري ليقوي الغوغاء ، فكان العوام يقولون: هذا إسلام الرشى ، لا إسلام التقى .

فأسلم يوما يهودي ، وحمل على دابة ، واتفقوا على الهجوم على الشريف أبي جعفر في مسجده والإيقاع به ، فرتب الشريف جماعة أعدهم لرد خصومة إن وقعت [فلما وصل أولئك إلى باب المسجد رماهم هؤلاء بالآجر ، فوقعت الفتنة] ووصل الآجر إلى [ ص: 182 ] حاجب الباب ، وقتل من أولئك خياط من سوق الثلاثاء ، وصاح أصحابها على باب النوبي المستنصر بالله: يا منصور ، تهمة للديوان بمعرفة الحنابلة ، وتشنيعا عليه ، وغضب أبو إسحاق الشيرازي ، ومضى إلى باب الطاق ، وأخذ في إعداد أهبة السفر ، فأنفذ إليه الخليفة من رده عن رأيه ، فبعث الفقهاء أبا بكر الشاشي وغيره من النظام يشرح له الحال ، فجاء كتاب النظام إلى الوزير فخر الدولة بالامتعاض مما جرى ، والغضب لتسلط الحنابلة على الطائفة الأخرى ، وإني أرى حسم القول في ما يتعلق بالمدرسة التي بنيتها في أشياء من هذا الجنس .

وحكى الشيخ أبو المعالي صالح بن شافع عن شيخه أبي الفتح الحلواني وغيره ممن شاهد الحال: أن الخليفة لما خاف من تشنيع الشافعية عليه عند النظام أمر الوزير أن يجيل الفكر فيما تنحسم به الفتنة ، فاستدعى الشريف أبا جعفر ، وكان فيمن نفذه إليه ابن جردة فتلطف به ابن جردة حتى حضر في الليل ، وحضر أبو إسحاق ، وأبو سعد الصوفي ، وأبو نصر ابن القشيري ، فلما حضر الشريف عظمه الوزير ورفعه ، وقال: إن أمير المؤمنين ساءه ما جرى من اختلاف المسلمين في عقائدهم وهؤلاء يصالحونك على ما تريد .

وأمرهم بالدنو من الشريف ، فقام إليه أبو إسحاق ، وقد كان يتردد في أيام المناظرة إلى مسجده بدرب المطبخ ، فقال له: أنا ذاك الذي تعرف ، وهذه كتبي في أصول الفقه ، أقول فيها خلافا للأشعرية ، ثم قبل رأسه فقال الشريف: قد كان ما تقول ، إلا أنك لما كنت فقيرا لم يظهر لنا ما في نفسك فلما جاءك الأعوان والسلطان وخواجا بزرك أبديت ما كان مخفيا .

ثم قام أبو سعد الصوفي فقبل يد الشريف وتلطف [به فالتفت] الشريف مغضبا وقال: أيها الشيخ ، أما الفقهاء فإذا تكلموا في مسائل الأصول فلهم فيها مدخل ، فأما أنت فصاحب لهو وسماع وبغتة ، فمن زاحمك على ذلك وعلى ما نلته من قبول عند أمثالك حتى داخلت المتكلمين والفقهاء ، فأقمت سوق التعصب . [ ص: 183 ]

ثم قام القشيري وكان أقلهم للشريف أبي جعفر لجروانه معه ، فقال الشريف: من هذا؟ فقيل: أبو نصر القشيري . فقال: لو جاز أن يشكر أحد على بدعته لكان هذا الشاب ، لأنه بادهنا بما في نفسه ، ولم ينافقنا كما فعل هذان ، ثم التفت إلى الوزير وقال: أي صلح بيننا ، إنما يكون الصلح بين مختصمين على ولاية أو دنيا ، أو قسمة ميراث ، أو تنازع في ملك ، فأما هؤلاء القوم فهم يزعمون أننا كفار ، ونحن نزعم أن من لا يعتقد ما نعتقده كافر ، فأي صلح بيننا وهذا الإمام مفزع المسلمين ، وقد كان جده القائم والقادر أخرجا اعتقادهما للناس ، وقرئ عليهم في دواوينهم ، وحمله عنهما الخراسانيون والحجيج إلى أطراف الأرض ، ونحن على اعتقادهما .

وأنهى الوزير ما جرى ، فخرج في الجواب: عرفنا ما أنهيته في حضور ابن العم ، كثر الله في الأولياء مثله ، وحضور من حضر من أهل العلم ، والحمد لله الذي جمع الكلمة ، وضم الألفة ، فليؤذن الجماعة في الانصراف ، وليقل لابن أبي موسى أنه قد أفرد له موضع قريب من الخدمة ليراجع في كثير من الأمور الدينية ، وليتبرك بمكانه .

فلما سمع الشريف هذا قال: فعلتموها ، فحمل إلى موضع أفرد له وكان الناس يدخلون عليه مديدة ثم قيل له: قد كثر استطراق الناس دار الخلافة فاقتصر على من يعين دخوله . فقال: ما لي غرض في دخول أحد علي . فامتنع الناس ، ثم مرض الشريف مرضا أثر في رجليه فانتفختا ، فيقال: إن بعض المتفقهة من الأعداء نزل له في مداسه سما ، والله أعلم .

[كثرة العلل والأمراض ببغداد ، وواسط ]

وفي ذي القعدة: كثرت العلل والأمراض ببغداد ، وواسط ، والسواد ، وكثر الموت [ ص: 184 ] حتى بقي معظم الغلات بحالها في الصحراء لعدم من يرفعها ، وورد الخبر من الشام كذلك .

وفي يوم الأربعاء لعشر بقين من ذي القعدة: أزيلت المواخير ، ودور الفسق ببغداد ونقضت ، وهرب الفواسق وذلك لخطاب جرى من الخليفة للشحنة الذي كانت هذه إقطاعه ، وبذل له عنها ألف دينار فامتنع ، وقال: هذه يحصل منها ألف وثماني مائة دينار ، فكوتب النظام بما جرى ، فعوض الشحنة من عنده ، وكتب بإزالتها .

وفي ذي القعدة: أخرج أبو طالب الزينبي إلى مكة لأجل البيعة للمقتدي على أمير مكة ابن أبي هاشم وأصحب خلعة .

وفي ذي الحجة: ورد الخبر بأن سابور بن محمود صاحب حلب أنفذ إلى أنطاكية بمن حاصرها ، فبلغ الخبز بها رطلين بدينار ، وقرر عليها مائة وخمسون ألفا وأخذوها وعادوا .

التالي السابق


الخدمات العلمية