الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا الآية (94) .

روي أن سبب نزول الآية، أن سرية للنبي صلى الله عليه وسلم، لقيت رجلا ومعه غنيمات له، فقال:

[ ص: 484 ] السلام عليكم، لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فقتله رجل من القوم، فلما رجعوا أخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال:

لم قتلته وقد أسلم؟

فقال: إنما قالها متعوذا.

فقال: هلا شققت عن قلبه؟ وحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ديته إلى أهله ورد عليهم غنيماته.


وهذا مما يحتج في قبول توبة الزنديق إذا أظهر الإسلام، لأن الله تعالى لم يفرق بين الزنديق وغيره متى أظهر الإسلام.

ومقتضى الإطلاق، أن من قال لا إله إلا الله، محمد رسول الله، أو قال إني مسلم، يحكم له بحكم الإسلام، لأن قوله تعالى:

لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا ، إنما معناه لمن استسلم، فأظهر الانقياد لما دعي إليه من الإسلام، فإذا قرئ السلام وهو إظهار تحية الإسلام، فلا جرم قال علماؤنا:

إنما نحكم له بالإسلام إذا أظهر ما ينافي سائر اعتقاده، فإذا قال اليهودي أو النصراني، أنا مسلم لم يصر مسلما، لأنهم كلهم يقولون نحن مسلمون، فهو كما قال أنا على الدين الحق.

نعم، المشركون قالوا: لا نقول نحن مسلمون، فحالهم في هذا خلاف حال اليهود والنصارى، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

[ ص: 485 ] "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها".

وإنما عنى به المشركين، لأن اليهود والنصارى يطلقون قول لا إله إلا الله ولا يتمانعون منه، وإن لزمهم الشرك في التفصيل.

فقول: لا إله إلا الله، إنما كان على إسلام مشركي العرب، لأنهم كانوا لا يعترفون به إلا استجابة لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد بين الله تعالى ذلك فقال:

إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون .

واليهود والنصارى يوافقون على إطلاق هذه الكلمة، وإنما يخالفون في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فمتى أظهر مظهر منهم الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم، فهو مسلم، حتى قال قائلون من أصحابنا: وإن هو قال محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلا يحكم بإسلامه، لإمكان أن يكون من العيسوية، حتى يقول محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكافة.

وقال قائلون: ولا بذلك أيضا يصير مسلما، لأن فيهم من يقول محمد رسول الله إلى كافة الناس، ولكنه سيبعث وما بعث بعد.

وإذا تبين ذلك، فما لم يقل أنا بريء من اليهودية والنصرانية، لا يصير مسلما.

ومن أجل هذه الاعتبارات والشرائط، صار من صار إلى أن توبة الزنديق لا تقبل، لأنا لم نعرف في حقه علما يظهر به مخالفة مقتضى [ ص: 486 ] اعتقاده، لأن دينه الذي يعتقده أن يدخل مع كل قوم فيما يهوونه، وأن كل دين على اختلاف الأديان كلها ينجر باطنه إلى المخازي التي يعتقدونها، فلم يظهر لنا منه ما يخالف مقتضى اعتقاده، فكان كاليهودي إذا قال لا إله إلا الله.

وهذا دقيق حسن، وقد شرحنا هذه المسألة من الأصول ومسائل الخلاف.

واعلم أن في الآية إشكالا، من حيث إن الله تعالى قال:

إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا . الآية (94) .

وذلك يمنع جزم الحكم بإسلامه، والتشكك من أمره، من غير أن يحكم له بالكفر ولا الإيمان، كالذي يخبر بالخبر ولا يعلم صدقه من كذبه، فلا يجوز لنا تكذيبه، وليس ترك تكذيبه مما يقتضي تصديقه، كذلك ما وصفنا من مقتضى الآية: ليس فيه إثبات الإيمان ولا الكفر إنما فيه الأمر بالتثبت حتى يتبين حاله، إلا أن الآثار التي ذكرناها قد أوجبت الحكم بإسلامه، فإنه عليه السلام قال: أقتلت مسلما؟ أوقتلته بعد ما أسلم.

وفيه أيضا سر آخر، وهو أنا ربما نقول إنا لا نعلم إسلامه الذي هو إسلام حقيقة عند الله تعالى، وربما غلب على ظننا كذبه، ولكن تجرى عليه أحكام الإسلام.

التالي السابق


الخدمات العلمية