الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 139 ] القول في تأويل قوله تعالى ( ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق )

قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : " ذلك " ضرب الذلة والمسكنة عليهم ، وإحلاله غضبه بهم . فدل بقوله : " ذلك " - وهي يعني به ما وصفنا - على أن قول القائل : " ذلك يشمل المعاني الكثيرة إذا أشير به إليها .

ويعني بقوله : ( بأنهم كانوا يكفرون ) ، من أجل أنهم كانوا يكفرون . يقول : فعلنا بهم - من إحلال الذل والمسكنة والسخط بهم - من أجل أنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ، كما قال أعشى بني ثعلبة :


مليكية جاورت بالحجا ز قوما عداة وأرضا شطيرا     بما قد تربع روض القطا
وروض التناضب حتى تصيرا

يعني بذلك : جاورت بهذا المكان ، هذه المرأة ، قوما عداة وأرضا بعيدة من أهله - لمكان قربها كان منه ومن قومه وبلده - من تربعها روض القطا وروض التناضب . [ ص: 140 ] فكذلك قوله : ( وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ) ، يقول : كان ذلك منا بكفرهم بآياتنا ، وجزاء لهم بقتلهم أنبياءنا .

وقد بينا فيما مضى من كتابنا أن معنى " الكفر " : تغطية الشيء وستره ، وأن " آيات الله " حججه وأعلامه وأدلته على توحيده وصدق رسله .

فمعنى الكلام إذا : فعلنا بهم ذلك ، من أجل أنهم كانوا يجحدون حجج الله على توحيده وتصديق رسله ، ويدفعون حقيتها ، ويكذبون بها .

ويعني بقوله : ( ويقتلون النبيين بغير الحق ) : ويقتلون رسل الله الذين ابتعثهم - لإنباء ما أرسلهم به عنه - لمن أرسلوا إليه .

وهم جماع ، واحدهم " نبي " ، غير مهموز ، وأصله الهمز ، لأنه من " أنبأ عن الله فهو ينبئ عنه إنباء " ، وإنما الاسم منه ، " منبئ " ولكنه صرف وهو " مفعل " إلى " فعيل " ، كما صرف " سميع " إلى " فعيل " من " مسمع " ، و" بصير " من " مبصر " ، وأشباه ذلك ، وأبدل مكان الهمزة من " النبيء " الياء ، فقيل : " نبي " . هذا ويجمع " النبي " أيضا على " أنبياء " ، وإنما جمعوه كذلك ، لإلحاقهم " النبيء " ، بإبدال الهمزة منه ياء ، بالنعوت التي تأتي على تقدير " فعيل " من ذوات الياء والواو . وذلك أنهم إذا جمعوا ما كان من النعوت على تقدير " فعيل " من ذوات الياء والواو ، جمعوه على " أفعلاء " كقولهم : " ولي وأولياء " ، و" وصي وأوصياء " [ ص: 141 ] ، و" دعي وأدعياء " . ولو جمعوه على أصله الذي هو أصله ، وعلى أن الواحد " نبيء " مهموز ، لجمعوه على " فعلاء " ، فقيل لهم " النبآء " ، على مثال " النبهاء " ، لأن ذلك جمع ما كان على فعيل من غير ذوات الياء والواو من النعوت ، كجمعهم الشريك شركاء ، والعليم علماء ، والحكيم حكماء ، وما أشبه ذلك . وقد حكي سماعا من العرب في جمع " النبي " " النبآء " ، وذلك من لغة الذين يهمزون " النبيء " ، ثم يجمعونه على " النبآء " - على ما قد بينت . ومن ذلك قول عباس بن مرداس في مدح النبي صلى الله عليه وسلم .


يا خاتم النبآء إنك مرسل     بالخير كل هدى السبيل هداكا

فقال : " يا خاتم النبآء " ، على أن واحدهم " نبيء " مهموز . وقد قال بعضهم : " النبي " و" النبوة " غير مهموز ، لأنهما مأخوذان من " النبوة " ، وهي مثل " النجوة " ، وهو المكان المرتفع ، وكان يقول : إن أصل " النبي " الطريق ، ويستشهد على ذلك ببيت القطامي :


لما وردن نبيا واستتب بها     مسحنفر كخطوط السيح منسحل

[ ص: 142 ] يقول : إنما سمى الطريق " نبيا " ، لأنه ظاهر مستبين ، من " النبوة " . ويقول : لم أسمع أحدا يهمز " النبي " . قال . وقد ذكرنا ما في ذلك ، وبينا ما فيه الكفاية إن شاء الله .

ويعني بقوله : ( ويقتلون النبيين بغير الحق ) ، أنهم كانوا يقتلون رسل الله ، بغير إذن الله لهم بقتلهم ، منكرين رسالتهم ، جاحدين نبوتهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية