الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر فدعا ربه أني مغلوب فانتصر ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر وحملناه على ذات ألواح ودسر تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر ولقد تركناها آية فهل من مدكر فكيف كان عذابي ونذر ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر كذبت عاد فكيف كان عذابي ونذر إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر فكيف كان عذابي ونذر ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 92 ] قوله تعالى: كذبت قبلهم أي: قبل أهل مكة "قوم نوح فكذبوا عبدنا" نوحا "وقالوا مجنون وازدجر" قال أبو عبيدة: افتعل من زجر .

                                                                                                                                                                                                                                      قال المفسرون: زجروه عن مقالته "فدعا" عليهم نوح "ربه" بـ "أني مغلوب فانتصر" أي: فانتقم لي ممن كذبني .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الزجاج: وقرأ عيسى بن عمر النحوي: "إني" بكسر الألف، وفسرها سيبويه فقال: هذا على إرادة القول، فالمعنى: قال: إني مغلوب; ومن فتح، وهو الوجه، فالمعنى: دعا ربه" بـ"أني مغلوب .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: ففتحنا أبواب السماء قرأ ابن عامر "ففتحنا" بالتشديد . فأما المنهمر، فقال ابن قتيبة: هو الكثير السريع الانصباب، ومنه يقال: همر الرجل: إذا أكثر من الكلام وأسرع . وروى علي رضي الله عنه أن أبواب السماء فتحت بالماء من المجرة، وهي شرج السماء . وعلى ما ذكرنا من القصة في "هود: 44" أن المطر جاءهم، يكون هو المراد بقوله: "ففتحنا أبواب السماء" قال المفسرون: جاءهم الماء من فوقهم أربعين يوما، وفجرت الأرض من تحتهم عيونا أربعين يوما .

                                                                                                                                                                                                                                      "فالتقى الماء" وقرأ أبي بن كعب ، وأبو رجاء ، وعاصم الجحدري: "الماءان" بهمزة وألف ونون مكسورة . وقرأ ابن مسعود: "المايان" بياء وألف ونون مكسورة من غير همز . وقرأ الحسن، وأبو عمران: "الماوان" بواو وألف وكسر النون . قال الزجاج: يعني بالماء: ماء السماء وماء الأرض، ويجوز الماءان، لأن اسم الماء اسم يجمع ماء الأرض وماء السماء .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: على أمر قد قدر فيه قولان .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: كان قدر ماء السماء كقدر ماء الأرض، قاله مقاتل .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 93 ] والثاني: قد قدر في اللوح المحفوظ، قاله الزجاج . فيكون المعنى: على أمر قد قضي عليهم، وهو الغرق . قوله تعالى: وحملناه يعني نوحا "على ذات ألواح ودسر" قال الزجاج . أي: على سفينة ذات ألواح . قال المفسرون: ألواحها: خشباتها العريضة التي منها جمعت . وفي الدسر أربعة أقوال .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها: أنها المسامير، رواه الوالبي عن ابن عباس، وبه قال قتادة، والقرظي، وابن زيد . وقال الزجاج: الدسر: المسامير والشرط التي تشد بها الألواح، وكل شيء نحو السمر أو إدخال شيء في شيء بقوة وشدة قهر فهو دسر، يقال: دسرت المسمار أدسره وأدسره . والدسر: واحدها دسار، نحو حمار، وحمر .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أنه صدر السفينة، سمي بذلك لأنه يدسر الماء، أي: يدفعه، رواه العوفي عن ابن عباس وبه قال الحسن وعكرمة; ومنه الحديث في العنبر أنه شيء دسره البحر، أي: دفعه .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث: أن الدسر: أضلاع السفينة، قاله مجاهد .

                                                                                                                                                                                                                                      والرابع: أن الدسر: طرفاها وأصلها، والألواح: جانباها، قاله الضحاك .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: تجري بأعيننا أي: بمنظر ومرأى منا "جزاء" قال الفراء: فعلنا به وبهم ما فعلنا من إنجائه وإغراقهم ثوابا لمن كفر به .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي المراد بـ "من" ثلاثة أقوال .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها: أنه الله عز وجل، وهو مذهب مجاهد، فيكون المعنى: عوقبوا لله ولكفرهم به .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 94 ] والثاني: أنه نوح كفر به وجحد أمره، قاله الفراء .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث: أن "من"; بمعنى "ما"; فالمعنى: جزاء لما كان كفر من نعم الله عند الذين أغرقهم، حكاه ابن جرير . وقرأ قتادة: "لمن كان كفر" بفتح الكاف والفاء .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: ولقد تركناها في المشار إليها قولان .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: أنها السفينة، قال قتادة: أبقاها الله على الجودي حتى أدركها أوائل هذه الأمة .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أنها الفعلة، فالمعنى: تركنا هذه الفعلة وأمر سفينة نوح آية، أي: علامة ليعتبر بها، "فهل من مدكر" وأصله مدتكر، فأبدلت التاء دالا على ما بينا في قوله: "وادكر بعد أمة" [يوسف: 45] . قال ابن قتيبة: أصله: مذتكر فأدغمت التاء في الذال، ثم قلبت دالا مشددة قال المفسرون والمعنى: هل من متذكر يعتبر بذلك؟ "فكيف كان عذابي ونذر" وفي هذه السورة "ونذر" ستة مواضع، أثبت الياء فيهن في الحالين يعقوب، تابعه في الوصل ورش، والباقون بحذفها في الحالين . وقوله فكيف كان عذابي" استفهام عن تلك الحالة، ومعناه التعظيم لذلك العذاب . قال ابن قتيبة: والنذر ها هنا جمع نذير، وهو بمعنى الإنذار، ومثله النكير بمعنى الإنكار . قال المفسرون: وهذا تخويف لمشركي مكة .

                                                                                                                                                                                                                                      "ولقد يسرنا القرآن" أي: سهلناه "للذكر" أي: للحفظ والقراءة "فهل من مدكر" أي: من ذاكر يذكره ويقرؤه; والمعنى: هو الحث على [ ص: 95 ] قراءته وتعلمه قال سعيد بن جبير : ليس من كتب الله كتاب يقرأ كله ظاهرا إلا القرآن . وأما الريح الصرصر، فقد ذكرناها في "حم السجدة: 160" .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: في يوم نحس مستمر قرأ الحسن: "في يوم" بالتنوين، على أن اليوم منعوت بالنحس . والمستمر: الدائم الشؤم، استمر عليهم بنحوسه . وقال ابن عباس: كانوا يتشاءمون بذلك اليوم . وقيل: إنه كان يوم أربعاء في آخر الشهر .

                                                                                                                                                                                                                                      "تنزع الناس" أي: تقلعهم من الأرض من تحت أقدامهم فتصرعهم على رقابهم فتدق رقابهم فتبين الرأس عن الجسد، فـ "كأنهم أعجاز نخل" وقرأ أبي بن كعب ، وابن السميفع: "أعجز نخل" برفع الجيم . من غير ألف بعد الجيم وقرأ ابن مسعود، وأبو مجلز، وأبو عمران: "كأنهم عجز نخل" بضم العين والجيم . ومعنى الكلام: كأنهم أصول نخل منقعر" أي: منقلع . وقال الفراء: المنقعر: المنصرع من النخل . قال ابن قتيبة: يقال: قعرته فانقعر، أي: قلعته فسقط . قال أبو عبيدة: والنخل يذكر ويؤنث، فهذه الآية على لغة من ذكر، وقوله: "أعجاز نخل خاوية" [الحاقة: 8] على [ ص: 96 ] لغة من أنث . وقال مقاتل: شبههم حين وقعوا من شدة العذاب بالنخل الساقطة التي لا رؤوس لها، وإنما شبههم بالنخل لطولهم، وكان طول كل واحد منهم اثني عشر ذراعا .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية