الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
قلت: هذا الذي ذكرناه هو ألفاظ «أبي بكر بن فورك» التي نقل بها ما ذكره، وهو في الغالب نقل ألفاظ «أبي الحسن الأشعري» من كتاب «المقالات» وفي مواضع غير كلامه بزيادة ونقصان، تارة غلطا، وتارة عمدا باجتهاده، لاعتقاده أن الصواب هو الذي ذكره، دون ما وجده فيما ذكره «أبو الحسن» وسنذكر إن شاء الله تعالى ألفاظ «أبي الحسن» بعينها في كتاب «المقالات» وألفاظه أيضا فيما صنفه أيضا بعد المقالات، حتى يتبين الأمر على حقيقته، فإن المقصود هنا إنما هو ذكر ما يحكيه «أبو بكر بن فورك» عن «أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب» وذكرنا هذه [ ص: 83 ] الجملة; لأنها أصل لما يحكيه عنه من التفصيل، فغلطه في هذا النقل قوله عن «أبي الحسن»: «أنه ذكر عن أصحاب «ابن كلاب» أنهم يقولون بذلك وبأكثر» وإنما لفظ «أبي الحسن» أنه قال: «وأما أصحاب عبد الله بن سعيد القطان فإنهم يقولون بأكثر ما ذكرناه عن أهل السنة، ويثبتون أن الباري لم يزل حيا عالما قادرا سميعا بصيرا عزيزا عظيما، جليلا كبيرا، كليما مريدا، متكلما جوادا، ويثبتون العلم والقدرة» إلى آخر ما ذكر، فذكر «أبو الحسن» أنهم يقولون: بأكثر ما يقوله أهل الحديث لا بكله، وأنهم يريدون هذه الأمور، فذكر عنهم زيادة في شيء وتركا لشيء، لم يقل: إنهم يقولون ما يقوله أهل الحديث وبأكثر منه، ولكن قد يتصحف في الخط بأكثر مما حكاه، لسقوط الميم في الخط أو لاندغامها في الخط، وكيف يقول «أبو الحسن» ذلك؟ وقد حكى عن أهل الحديث أنهم يقولون: الإيمان قول وعمل، وأنه يزيد وينقص، و«ابن فورك» قد حكى عن «ابن كلاب» إنكار أن يكون العمل إيمانا، وأن الإيمان يزيد وينقص، وأشياء أخر، إذ كان من المرجئة، وأيضا «فابن فورك» قال: «قال شيخنا في كتاب «المقالات» بعد ذكره مقالات الإمامية والخوارج، والمعتزلة والنجارية، في جليل الكلام قال: «هذه [ ص: 84 ] حكاية قول أصحاب الحديث وأهل السنة» فاقتضى ما ذكره «ابن فورك» أن «أبا الحسن» لم يذكر مخالفا لهم ذكره بكلام إلا هذه الأصناف الأربعة، وليس كذلك، بل قد ذكر «أبو الحسن» عشرة أصناف; وقال في أول كتابه: «هذا ذكر الاختلاف، اختلف المسلمون عشرة أصناف; الشيعة والخوارج والمرجئة والمعتزلة والجهمية، والضرارية والحسينية، [ ص: 85 ] والبكرية، والعامة، وأصحاب الحديث، والكلابية أصحاب «عبد الله بن سعيد بن كلاب القطان» ثم ذكر أصناف الشيعة، ثم أصناف الخوارج، فلما فرغ قال: «آخر مقالات الخوارج، أول مقالات المرجئة» فذكرهم اثنتي عشرة فرقة، ثم بعد أن فرغ منهم قال: «هذا شرح قول المعتزلة في التوحيد وغيره» وذكر أقاويل المعتزلة، وفي ضمنها قال: «هذا شرح اختلاف الناس في التجسيم» ثم قال: «ذكر قول الجهمية» [ ص: 86 ] ثم قال: «ذكر الضرارية أصحاب «ضرار بن عمرو» ثم قال: «ذكر قول «الحسين بن محمد النجار» وهؤلاء الثلاثة يوافقون المعتزلة في الصفات في الجملة دون القدر، ومسائل «أبي عبيد» والإيمان، ثم قال: «ذكر قول البكرية أصحاب بكر ابن أخت [ ص: 87 ] عبد الواحد» ثم قال: «هذه حكاية قول قوم من النساك» ثم قال: «هذه حكاية قول جملة أصحاب الحديث وأهل السنة» ثم قال: «فأما أصحاب عبد الله بن سعيد» إلى آخره، ثم قال: «ذكر قول زهير الآثري» وذكر قول «معاذ التومني» ، ثم قال: «هذا آخر الكلام في الجليل، ذكر اختلاف الناس في [ ص: 88 ] الدقيق» ولكن «ابن فورك» لميله وميل «ابن كلاب» إلى قول المرجئة، يذكر ذلك لئلا يظهر ما خالفوا فيه أهل الحديث، وأيضا فقد ذكر «أبو الحسن» عن أهل الحديث في القرآن والنزول، والمجيء والقرب، والرضى والسخط والجدل، وغير ذلك ألفاظا هي معروفة عندهم، صنفها «ابن فورك» فيما نقله من نقل «الأشعري» عنهم، هذا مع أن الذي ذكره «الأشعري» عنهم، فيه مواضع ذكرها بتصرف واجتهاد، فإن كلام أئمة الحديث في هذه الأبواب في كتب السنة، والآثار متواترة عند من يعرف ذلك، وأيضا فلفظ «الأشعري» في كتاب «المقالات» عن «ابن كلاب»: «أن الباري لم يزل، ولا مكان ولا زمان قبل الخلق، وأنه على ما لم يزل عليه، وأنه مستو على عرشه كما قال، وأنه فوق كل شيء تعالى» فزاد «ابن فورك»: «لا بحد ولا مماس، أو مفارقة بعزلة أو تحيز» وهذه الألفاظ موجودة، هي أو ما يوجب الإثبات في كلام «ابن كلاب» كما سيأتي، لكن اللفظ الذي نقله «الأشعري» عنه هو ما تقدم فقط، و «ابن فورك» هو المصنف لكتاب «تأويل ما ذكره من الآيات والأحاديث في الصفات» وعلى كتابه يعتمد هذا المؤسس [ ص: 89 ] أبو عبد الله الرازي وغيره، إذ هو أجمع كتاب صنفه المنتسبون إلى الأشعري في ذلك، ولهذا ذكرنا ما نقله هو عن أئمته في هذا الباب، ليكون في ذلك هدى ورحمة لمن يريد الله له ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وقد ذكر «أبو بكر بن فورك» فصولا من كلام «ابن كلاب» في مصنفاته مثل كتاب «التوحيد» وكتاب «الصفات» وكتاب «الرد على المريسي» ونحن نعود إلى ما أشرنا إليه، وهو أن القول: بأنه لا داخل العالم ولا خارجه، إنما ذهب إليه شرذمة من الناس أهل البدع، خلاف ما يزعم «الرازي» وأمثاله أن ذلك قول جمهور العقلاء المعتبرين.

قال «ابن فورك»: «وقال -يعني: ابن كلاب- في كتاب «الصفات» في بيان القول في الاستواء: «ورسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صفوة الله من خلقه، وخيرته من بريته، وأعلمهم جميعا به، يجيز قول الأين ويقوله، ويستصوب قول القائل: إنه في السماء، ويشهد له بالإيمان عند ذلك، وجهم بن صفوان وأصحابه، لا يجيزون الذي زعموا، ويحيلون القول به» قال: «ولو كان خطأ كان رسول الله أحق بالإنكار له، وكان ينبغي أن يقول لها: [ ص: 90 ] لا تقولي ذلك، فتوهمين أنه عز وجل محدود، وأنه في مكان دون مكان، ولكن قولي: إنه في كل مكان، لأنه هو الصواب دون ما قلت، كلا لقد أجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع علمه بما فيه، وأنه أصوب الأقاويل، والأمر الذي يجلب الإيمان لقائله، ومن أجله شهد لها بالإيمان حين قال، وكيف يكون الحق في خلاف ذلك؟ والكتاب ناطق به وشاهد له، ولو لم يشهد لصحة مذهب الجماعة في هذا الفن خاصة إلا ما ذكرت من هذه الأمور، لكان فيه ما يكفي، كيف وقد غرس في بنية الفطرة، وتعارف الآدميين من ذلك ما لا شيء أبين منه ولا أوكد، بل لا تسأل أحدا من الناس عنه عربيا ولا عجميا ولا مؤمنا ولا كافرا، فتقول: أين ربك؟ إلا قال: في السماء، إن أفصح، أو أومأ بيده أو أشار بطرفه، إن كان لا يفصح، لا يشير إلى غير ذلك من أرض ولا سهل ولا جبل، ولا رأينا أحدا داعيا له إلا رافعا يديه إلى السماء، ولا وجدنا أحدا غير الجهمية يسأل عن ربه فيقول: في كل مكان، كما يقولون، وهم يدعون أنهم أفضل الناس كلهم، فتاهت العقول، وسقطت الأخبار، واهتدى «جهم» وحده وخمسون رجلا معه، نعوذ بالله من مضلات الفتن».

قال «ابن فورك»: «فقد حقق رحمه الله في هذا الفصل شيئا [ ص: 91 ] من مذاهبه:

أحدها: إجازة القول بأين الله في السؤال عنه.

والثاني: صحة الجواب عنه بأن يقال في السماء.

والثالث: أن ذلك يرجع فيه إلى الإجماع من الخاصة والعامة».

التالي السابق


الخدمات العلمية