الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                              السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

                                                                                                                              صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              323 [ ص: 410 ] (باب قول النبي صلى الله عليه وسلم يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا بغير حساب)

                                                                                                                              "وفيه" عظم ما أكرم الله سبحانه به النبي صلى الله عليه وسلم وأمته، زادها الله فضلا وشرفا.

                                                                                                                              وقال النووي: (باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب).

                                                                                                                              (حديث الباب)

                                                                                                                              وهو بصحيح مسلم \ النووي ص 93 - 94 جـ3 المطبعة المصرية

                                                                                                                              [أخبرنا حصين بن عبد الرحمن ، قال: كنت عند سعيد بن جبير فقال: أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة، قلت: أنا، ثم قلت: أما إني لم أكن في صلاة ولكني لدغت، قال: فماذا صنعت؟ قلت: استرقيت، قال: فما حملك على ذلك؟ قلت: حديث حدثناه الشعبي فقال: وما حدثكم الشعبي؟ قلت: حدثنا عن بريدة بن حصيب الأسلمي أنه قال: لا رقية إلا من عين أو حمة، فقال: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال عرضت علي الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهيط والنبي ومعه الرجل والرجلان والنبي ليس معه أحد، إذ رفع لي سواد عظيم فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى صلى الله عليه وسلم وقومه، ولكن انظر إلى الأفق، فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي: انظر إلى الأفق الآخر فإذا [ ص: 411 ] سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، ثم نهض فدخل منزله، فخاض الناس في أولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام ولم يشركوا بالله، وذكروا أشياء، فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما الذي تخوضون فيه؟ فأخبروه، فقال: هم الذين لا يرقون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون، فقام عكاشة بن محصن فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: أنت منهم، ثم قام رجل آخر، فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: سبقك بها عكاشة ].

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              (الشرح)

                                                                                                                              (عن حصين بن عبد الرحمن: قال: كنت عند سعيد بن جبير؛ فقال: أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟) أي: "سقط "والبارحة"، هي أقرب ليلة مضت.

                                                                                                                              قال ثعلب: يقال "قبل الزوال": رأيت الليلة، "وبعد الزوال": رأيت البارحة، وهي مشتقة من "برح" إذا زال.

                                                                                                                              وثبت عند مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى الصبح قال: "هل رأى أحد منكم البارحة رؤيا.

                                                                                                                              "قلت: أنا. ثم قلت: أما إني لم أكن في صلاة ولكني لدغت".

                                                                                                                              [ ص: 412 ] أراد أن ينفي عن نفسه تهمة العبادة، والسهر في الصلاة، مع أنه لم يكن فيها.

                                                                                                                              قال أهل اللغة: يقال: "لدغته العقرب"، وذوات السموم إذا أصابته بسمها، وذلك بأن تأبره بشوكتها.

                                                                                                                              قال: فماذا صنعت؟ قلت: استرقيت. قال: فما حملك على ذلك؟ قلت: حديث حدثناه الشعبي، "فقال": وما حدثكم الشعبي؟ قلت: حدثنا عن بريدة بن حصيب، بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين.

                                                                                                                              (الأسلمي أنه قال: لا رقية إلا من عين أو حمة) بضم الحاء وتخفيف الميم.

                                                                                                                              وهي "سم العقرب وشبهها" وقيل "فوعة السم" وهي حدته وحرارته، والمراد: أو "ذي حمة" كالعقرب وشبهها، أي: لا رقية إلا من "ذي حمة".

                                                                                                                              وأما "العين" فهي: إصابة العائن غيره بعينه؛ "والعين" حق.

                                                                                                                              قال الخطابي: ومعنى الحديث: لا رقية أشفى وأولى من رقية العين وذي اللحمة.

                                                                                                                              وقد رقى النبي صلى الله عليه وسلم، وأمر بها. فإذا كانت بالقرآن وبأسماء الله تعالى فهي مباحة.

                                                                                                                              وإنما جاءت الكراهة منها لما كان بغير لسان العرب، فإنه ربما كان كفرا، وقولا يدخله الشك.

                                                                                                                              [ ص: 413 ] ويحتمل أن يكون الذي كره من "الرقية" ما كان منها على مذهب الجاهلية في "العوذ" التي كانوا يتعاطونها، ويزعمون أنها تدفع عنهم الآفات، ويعتقدون أنها من قبل الجن، ومعونتهم، انتهى.

                                                                                                                              فقال: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع. ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "عرضت علي الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهيط"؛ تصغير "الرهط" وهي الجماعة دون العشرة. "والنبي ومعه الرجل، والرجلان. والنبي ليس معه أحد، إذ رفع لي سواد عظيم، فظننت أنهم أمتي. فقيل لي: هذا موسى صلى الله عليه وسلم وقومه. ولكن انظر إلى الأفق، فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي: انظر إلى الأفق الآخر، فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك، ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب".

                                                                                                                              قال النووي: معناه: ومع هؤلاء "سبعون ألفا"، من أمتك. فكونهم من أمته صلى الله عليه وسلم التي لا شك فيه.

                                                                                                                              وأما تقديره؛ فيحتمل أن يكون معناه: "وسبعون ألفا من أمتك غير هؤلاء"، وليسوا مع هؤلاء. ويحتمل أن يكون معناه: في جملتهم "سبعون ألفا".

                                                                                                                              [ ص: 414 ] ويؤيد هذا رواية البخاري في صحيحه "هذه أمتك، ويدخل الجنة من هؤلاء سبعون ألفا، انتهى".

                                                                                                                              ورواية مسلم: "مع كل واحد منهم سبعون ألفا".

                                                                                                                              وفي حديث أبي هريرة عند مسلم يدخل الجنة "من أمتي زمرة هم سبعون ألفا في وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر"

                                                                                                                              وفي لفظ عنه: "سبعون ألفا مرة واحدة منهم، على صورة القمر".

                                                                                                                              وفي حديث سهل بن سعد "ليدخلن الجنة من أمتي سبعون ألفا" "أو سبعمائة ألف" - لا يدري أبو حازم أيهما قال - "متماسكون". آخذ بعضهم بعضا، لا يدخل أولهم حتى يدخل آخرهم. وجوههم على صورة القمر ليلة البدر". أي: يدخلون صفا واحدا بعضهم بجنب بعض، وهذا تصريح لعظم سعة "باب الجنة"؛ نسأل الله الكريم رضاه، والجنة لنا، ولآبائنا، وأخلافنا، وأحبابنا، ولسائر المسلمين.

                                                                                                                              "ثم نهض فدخل منزله، فخاض الناس، في أولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب"؛ أي: تكلموا وتناظروا.

                                                                                                                              "وفي هذا" إباحة المناظرة في العلم، والمباحثة، في نصوص الشرع على جهة الاستفادة، وإظهار الحق، والله أعلم.

                                                                                                                              [ ص: 415 ] (فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام؛ "ولم" يشركوا بالله وذكروا أشياء؛ فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "ما الذي تخوضون فيه؟" فأخبروه. فقال: "هم الذين لا يرقون، ولا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون" ).

                                                                                                                              وفي الرواية الأخرى (قالوا: ومن هم يا رسول الله؟ قال: "هم الذين لا يكتوون، ولا يسترقون، وعلى ربهم يتوكلون" وزاد في أخرى "ولا يتطيرون" ).

                                                                                                                              واختلف العلماء في معنى هذا الحديث.

                                                                                                                              قال النووي: والظاهر ما اختاره الخطابي. وحاصله: أن هؤلاء كمل تفويضهم إلى الله، فلم يتسببوا في دفع ما أوقعه بهم.

                                                                                                                              قال: ولا شك في فضيلة هذه الحالة، ورجحان صاحبها.

                                                                                                                              وأما تطبب النبي صلى الله عليه وسلم ففعله ليبين لنا الجواز، انتهى.

                                                                                                                              واختلفت عبارات السلف والخلف؛ في حقيقة "التوكل".

                                                                                                                              وأحسنها ما قال القشيري: أن "التوكل" محله القلب. وأما الحركة بالظاهر فلا تنافي التوكل بالقلب؛ بعد ما تحقق العبد أن الثقة [ ص: 416 ] من قبل الله، فإن تعسر شيء فبتقديره، وإن تيسر فبتيسيره.

                                                                                                                              وقال التستري: هو الاسترسال مع الله على ما يريد. واستدل بهذا الحديث على كراهة التداوي.

                                                                                                                              والجمهور على خلاف ذلك، واحتجوا مما وقع في أحاديث كثيرة من ذكره صلى الله عليه وسلم لمنافع الأدوية والأطعمة كالحبة السوداء، "والقسط"، والصبر، وغير ذلك، وبأنه تداوى، وبإخبار عائشة بكثرة تداويه.

                                                                                                                              وبما علم من الاستشفاء برقاه، وبالحديث الذي فيه: أن بعض الصحابة أخذوا على الرقية أجرا.

                                                                                                                              وهذا كله لبيان الجواز، وأن المراد بتركها في هذا الحديث تركها توكلا على الله، ورضاء بقضائه وبلائه، وهذه من أرفع درجات المحققين بالإيمان، وإلى هذا ذهب جماعة.

                                                                                                                              قال عياض: وهذا ظاهر الحديث. ومقتضاه: أنه لا فرق بين ما ذكر من الكي والرقى وسائر أنواع الطب، والله أعلم.

                                                                                                                              (فقام "عكاشة بن محصن الأسدي". بضم العين وتشديد الكاف وتخفيفها: (لغتان مشهورتان؛ ذكرهما جماعات: منهم: ثعلب، والجوهري).

                                                                                                                              قال ثعلب: هو مشدد وقد يخفف. وقال صاحب "المطالع": التشديد أكثر.

                                                                                                                              [ ص: 417 ] "ومحصن" بكسر الميم وفتح الصاد.

                                                                                                                              "فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. فقال: أنت منهم".

                                                                                                                              وفي حديث أبي هريرة عند مسلم "فقال رجل: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم، "قال": اللهم اجعله منهم".

                                                                                                                              ثم قام رجل آخر، فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. فقال: سبقك بها عكاشة".

                                                                                                                              قال عياض: إن الرجل الثاني لم يكن ممن استحق تلك المنزلة، ولا كان بصفة أهلها، بخلاف "عكاشة".

                                                                                                                              وقيل: بل كان منافقا، فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بكلام محتمل. ولم ير التصريح له بأنك لست منهم؛ لما كان عليه من حسن العشرة.

                                                                                                                              وقيل: قد يكون سبق "عكاشة" بوحي أنه يجاب فيه، ولم يحصل ذلك للآخر.

                                                                                                                              وقد ذكر الخطيب البغدادي في كتابه "في الأسماء المبهمة" أنه يقال: إن هذا الرجل هو "سعد بن عبادة" فإن صح هذا بطل قول من زعم أنه منافق، والأظهر المختار هو القول الأخير. قاله النووي.




                                                                                                                              الخدمات العلمية