الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ثم دخلت سنة ثمان وسبعين وأربعمائة

فمن الحوادث فيها:

أنه وصل الخبر في المحرم بأن أرجان زلزلت وما تاخمها من النواحي ، وهلك خلق ، وسقطت منارة الجامع ، وهلك تحت الردم أمم من الآدميين والمواشي .

[هبوب ريح عظيمة]

وفي ربيع الأول: هبت ريح عظيمة بعد العشاء ، واسودت الدنيا وادلهمت ، وكثر الرعد والبرق ، وعلا على السطوح رمل عظيم وتراب ، وكانت النيران تضطرم في جوانب السماء ، ووقعت صواعق بألسن والبوازيج ، وكسرت بالنيل نخيل كثيرة ، وغرقت سفن ، وخر كثير من الناس على وجوههم ، فاستمر ذلك إلى نصف الليل حتى ظنوا أنها القيامة ، ثم انجلت .

وفي هذا الشهر: ولد للمقتدي ولد سماه: حسينا ، وكناه: أبا عبد الله ، وجلس النائب بالديوان العزيز بباب الفردوس للتهنئة به ، وضربت الطبول والبوقات ، وكثرت الصدقات ، وخرج توقيع من أمير المؤمنين وفيه قد رفع إلى مجلس العرض الأشرف حال بني اليهود وتظاهرهم بما حظر على أهل الذمة المظاهرة به ، فمتى تعدوا شرطا مما أخذ منهم نقضوا العهد ، وبرئت منهم الذمة . قال الله تعالى: فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم . [ ص: 240 ]

وفي جمادى الأولى : فتح فخر الدولة أبو نصر ميافارقين عنوة ، فتم له بذلك الاستيلاء على ديار بكر .

وفيه: بدأ الطاعون ببغداد ونواحيها ، وكان عامة أمراضهم الصفراء ، بينا الرجل في شغله أخذته رعدة فخر لوجهه ، ثم عرض لهم شناج وبرسام وصداع ، وكان الأطباء يصفون مع هذه الأمراض أكل اللحم لحفظ القوة ، فإنهم ما كانت تزيدهم الحمية إلا قوة مرض ، وكانوا يسمونها: مخوية ، وتقول الأطباء: ما رأينا مثل هذه الأمراض لا تلائمها المبردات ولا المسخنات ، واستمر ذلك إلى آخر رمضان فمات منه نحو عشرين ألفا ببغداد ، وكان المرض يكون خمسة أيام وستة ثم يأتي الموت ، وكان الناس يوصون في حال صحتهم ، وكان الميت يلبث يوما ويومين لعدم غاسل وحامل وحافر ، وكان الحفارون يحفرون عامة ليلتهم بالروحانية ليفي ذلك بمن يقبر نهارا ، ووهب المقتدي للناس ضيعة تسمى الأجمة فامتلأت بالقبور ، وفرغت قرى من أهلها منها المحول .

وحكى بعض الأتراك أنه مر بالمحول ، فرأى كثرة الموتى ، ورأى طفلة على باب بيت تنادي: هل من مسلم يؤجر في فيأخذني ، فإن أبي وأمي وأخوتي هلكوا في هذا البيت . قال: فنزلت فإذا بها في صدر أمها ميتة .

وحكى عبيد الله بن طلحة الدامغاني أن دربا من دروب التوثة مات جميع أهله فسد باب الدرب ، وهلك عامة أهل باب البصرة ، وأهل حربي ، وعم هذا الطاعون خراسان ، والشام ، والحجاز ، وتعقبه موت الفجأة ، ثم أخذ الناس الجدري في أطفالهم ، ثم تعقبه موت الوحوش في البرية ، ثم تلاه موت الدواب والمواشي ، ثم قحط الناس ، وعزت الألبان واللحوم ، ثم أصاب الناس بعد ذلك الخوانيق ، والأورام ، والطحال ، وأمد المقتدي بأمر الله الفقراء بالأدوية والمال ، ففرق ما لا يحصى ، وتقدم إلى أطباء المارستان بمراعاة جميع المرضى .

وفي جمادى الآخرة: هبت ريح سوداء ، وادلهمت السماء ، وكان في خلال ذلك [ ص: 241 ] نار وتراب كالجبال يسير بين السماء والأرض ، فانجلت وقد هلك خلق كثير من الناس والبهائم ، ودخل اللصوص الحمامات فأخذوا ثياب الناس ، ونهبوا الأسواق ، وغرقت سفن ، وسقط رأس منارة باب الأزج .

وفي شعبان: بدأت الفتن بين أهل الكرخ ومحال السنة ، ونهبت قطعة من نهر الدجاج ، وقلعت الأخشاب حتى من المساجد ، وضرب الشحنة خيما هناك حتى انكف الشر .

وفي يوم الخميس ثاني عشر شعبان: خلع على أبي بكر محمد بن المظفر الشامي في الديوان وولي قضاء القضاة .

قال عبد الله بن المبارك السقطي: لما توفي [محمد بن علي] الدامغاني وكان يحمل إليه أموال كثيرة من الأمصار ، وترشح ولده لقضاء القضاة ، وبذل مالا جزيلا فرأى أمير المؤمنين رفع الظنة عنه بقبول مال ، فعدل إلى الشامي ، فخرج التوقيع بولايته ، فاستبشر الناس .

وفي رمضان: تكلم بهراة متكلم فلسفي فأنكر عليه عبد الله الأنصاري ، فتعصب لذلك قوم فافتتنت هراة ، وخرج ذلك المتكلم إلى فوسنج بعد أن أثخن ضربا ، وأحرقت داره ، فلجأ إلى دار القاضي أبي سعد بن أبي يوسف مدرس فوسنج ، فأتبعه قوم من أصحاب الأنصاري إلى فوسنج وهجموا عليه ، ونالوا منه ومن أبي سعد ، فافتتنت فوسنج ، وسود باب مدرسة النظام ، وكانت فيها جراحات فبعث النظام فقبض على الأنصاري ، فأبعده عن هراة حتى خبت الفتنة ، ثم أعاده إلى هراة .

وفي ذي القعدة: جاء سيل لم يشاهد مثله منذ سنين ، فغرق عامة المنازل ببغداد ، ودام يوما وليلة ، وبقي أثر ذلك السحاب في البرية إلى الصيف .

وفي هذا الشهر: قبض بدر الجمالي أمير مصر على ولده الأكبر وأربعة من [ ص: 242 ] الأمراء ، كان الولد قد واطأهم على قتل أبيه لينفرد بالملك ، فوشى بذلك خازن أحد الأمراء ، فأخذ الأربعة ، وضرب رقابهم وصلبهم ، وعفى أثر ولده ، فقال قوم: قطع عنه القوت فمات ، وقال قوم: غرقه ، وقال قوم: دفنه حيا ، وكان بدر هذا قد نفى عن مصر والقاهرة كل من وقعت عليه سيماء العلم بعد أن قتل خلقا كثيرا من العلماء ، وقال:

العلماء أعداء هذه الدولة هم الذين ينبهون العوام على ما يقولونه ، ونفى مذكري أهل السنة ، وحمل الناس أن يكبروا خمسا على الجنائز ، وأن يسدلوا أيمانهم في الصلاة ، وأن يتختموا في الأيمان ، وأن يثوبوا في صلاة الفجر "حي على خير العمل" وحبس أقواما رووا فضائل الصحابة .

وزاد نيل مصر في هذه السنة زيادة لم يعهدوها منذ سنين وكثر الخصب .

وفي ذي الحجة عادت الفتن بين أهل الكرخ والسنة ، وأحرق شطر من الكرخ ومن باب البصرة ، وعبر الشحنة فأحرق من باب البصرة ، وقتل هاشميا فعبر أهل باب البصرة إلى الديوان ، ورجموا المتعيشين في الحريم ، وغلقوا الدكاكين ، فنفذ من منع الشحنة منهم ، وأصلح بينهم .

ومما حدث في هذه السنة: أن رجلا من الهاشميين يقال له: ابن الحب كانت له بنت فهويها جار لهم وهويته فافتضها ، فدخل أبوها فرآها على تلك الحال فغشي عليه ، ثم أفاق بعد زمان وجرد سيفا وعدا ليقتلها ، فهربت إلى جيرانها ، ثم ظفر بها فسألها عن الحال فاعترفت ، فمضى إلى الديوان في جماعة من الهاشميين يستنفر على الرجل ، فلم تثبت له بينة ولا أقر الرجل ، فحبس الشريف ابنته في بيت ، وسد عليها الباب ، وكان لها أخ يرمي إليها من روزنة البيت يسيرا من القوت فعلم أبوها فأخرجه من الدار ، فبقيت أياما ليس لها قوت فماتت .

ومما حدث: أن قوما وقعوا على حاج مصر فقتلوا خلقا كثيرا منهم ، وأخذوا أموالهم ، وعاد من سلم غير حاج ، وخرج توقيع من المقتدي بأمر الله بنقض ما علا من دور بني الحرر [اليهود]

[ ص: 243 ]

وسد أبوابا لهم كانت تقابل الجامع ، وأخذ عليهم غض الصوت بقراءة التوراة في منازلهم ، وإظهار الغيار على رءوسهم ، ونودي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والتقدم إلى والي كل محلة بالسد من الطائفة الصمدية ، وأريقت الخمور ، وكسرت الملاهي ، ونقضت دور أهل الفساد .

التالي السابق


الخدمات العلمية