الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 612 ] ثم دخلت سنة ست وثمانين وخمسمائة

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      استهلت والسلطان محاصر لمحاصري عكا وأمداد الفرنج تقدم عليهم من البحر في كل وقت وكل حين حتى إن النساء ليخرجن بنية القتال ومنهن من تأتي بنية راحة الغرباء في الغربة قدم إليهم مركب فيه ثلاثمائة امرأة حسناء بهذه النية حتى إن كثيرا من فسقة المسلمين تحيزوا إليهم لأجل هذه النسوة ، واشتهر الخبر بأن ملك الألمان قد أقبل في نحو ثلاثمائة ألف مقاتل من ناحية القسطنطينية يريد أخذ الشام وقتل أهله وملوكه انتصارا لبيت المقدس فحمل المسلمون هما عظيما وخافوا غائلة ذلك مع ما هم فيه من الشغل العظيم والحصار الهائل ، ولكن الله لطف بهم وأهلك غالب أمة الألمان في الطرقات بالبرد والجوع والضلال في المهالك على ما سيأتي بيانه وتفصيله إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان سبب نفر النصارى في هذا العام ما ذكره ابن الأثير في " كامله " أن جماعة من الرهبان والقسوس ركبوا من مدينة صور في أربعة مراكب يطوفون البلدان البحرية يحثونهم على الانتصار لبيت المقدس وما جرى على أهل السواحل من القتل والسبي وخراب الديار وقد صوروا صورة المسيح وصورة عربي يضربه فإذا سألوهم من هذا الذي يضرب المسيح ؟ قالوا : هذا نبي العرب [ ص: 613 ] يضربه وقد جرحه ومات فينزعجون عند ذلك ويحمون ويبكون ويحزنون ويخرجون من بلادهم لنصرة دينهم ونبيهم وموضع حجهم على الصعب والذلول حتى النساء المخدرات والأبناء الذين هم عند أهليهم من أعز الثمرات وأخص الخدرات .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي نصف ربيع الأول تسلم السلطان شقيف أرنون بالأمان وكان صاحبه مأسورا في الذل والهوان وكان من أدهى الفرنج وأخبرهم بأيام الناس وربما قرأ في كتب الحديث وتفسير القرآن وكان مع هذا غليظ الجلد كافر القلب ، قبحه الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولما انفصل فصل الشتاء وأقبل الربيع جاءت الملوك من بلدانها بخيولها وشجعانها ورجالها وفرسانها وأرسل الخليفة إلى الملك صلاح الدين أحمالا من النفط والرماح ونفاطة ونقابين كل منهم متقن في صنعته غاية الإتقان ومرسوما بعشرين ألف دينار وانفتح البحر وتواترت مراكب الفرنج من كل جزيرة ينصرون أصحابهم ويمدونهم بالقوة والميرة وعملت الفرنج ثلاثة أبرجة من خشب وحديد عليها جلود مسقاة بالخل لئلا يعمل فيها النفط يسع البرج منها خمسمائة مقاتل وهي أعلى من أبرجة البلد وهي مركبة على عجل بحيث يديرونها كيف شاءوا ، وعلى ظهر كل برج منها منجنيق كبير فأهم أمرها المسلمين وكانوا عليها حنقين فأعمل السلطان فكره في إحراقها فاستحضر النفاطين ووعدهم الأموال الجزيلة فانتدب شاب نحاس من دمشق يعرف بعلي بن عريف النحاسين والتزم [ ص: 614 ] بإحراقها وإهلاكها فأخذ النفط الأبيض وخلطه بأدوية عرفها وغلى ذلك في ثلاثة قدور من نحاس حتى صار نارا تأجج ورمى كل برج منها بقدر من تلك القدور بالمنجنيق من داخل عكا فاحترقت الأبرجة الثلاثة بإذن الله عز وجل حتى صارت نارا لها في الجو ألسنة متصاعدة فصرخ المسلمون صرخة واحدة بالتهليل واحترق في كل برج منها سبعون كفورا وكان يوما على الكافرين عسيرا [ الفرقان : 26 ] وذلك يوم الاثنين الثامن والعشرين من ربيع الأول من هذه السنة ، وكانت الفرنج تعبوا فيها سبعة أشهر فاحترقت في يوم واحد وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا [ الفرقان : 23 ] ثم عرض السلطان على ذلك الشاب النحاس العطية السنية فامتنع من قبولها وقال : إنما عملت هذا ابتغاء وجه الله ورجاء ما عنده سبحانه فلا أريد منكم جزاء ولا شكورا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وأقبل الأسطول المصري وفيه الميرة الكثيرة لأهل البلد فعبى الفرنج أسطولهم ليحاربوا أسطول المسلمين فنهض السلطان بجيشه ليشغلهم عن قتال الأسطول وقاتلهم أهل البلد أيضا واقتتل الأسطولان في البحر وكان يوما مشهودا عظيما وحربا في البر والبحر فظفرت الفرنج بشيني واحد من الأسطول الذي للمسلمين وسلم الله الباقي فوصل إلى البلد بما فيه من الميرة التي قد اشتدت حاجتهم إلى عشرها وحمدت الله تعالى على يسرها بعد عسرها .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وأما ملك الألمان المتقدم ذكره فإنه أقبل في عدد كثير وجم غفير قريب من ثلاثمائة ألف مقاتل من نيته الانتصار لبيت المقدس حين أخذ من أيديهم فما زال يمر بإقليم بعد إقليم ويتخطفون في كل مكان ويقتلون كما يقتل [ ص: 615 ] الحيوان حتى اجتاز ملكهم بنهر شديد الجرية فدعته نفسه أن يسبح فيه فلما صار فيه حمله الماء إلى جذع شجرة فشجت رأسه وأخمدت أنفاسه وأراح الله منه المسلمين وحشرت روحه إلى سجين فأقيم ولده الأصغر في الملك بعده ، وقد تمزق شملهم وقلت منهم العدة ثم أقبلوا لا يجتازون ببلد إلا قتلوا فيه وقل عددهم حتى جاءوا إلى أصحابهم المحاصرين لعكا وهم في ألف فارس وليس لهم قدر ولا قيمة عند أحد من أهل ملتهم ولا غيرهم وهكذا سنة الله فيمن أراد مخالفة الإسلام وأهله في إهلاكه وتمزيق شمله ولله الحمد والمنة على إحسانه وفضله .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وزعم العماد في سياقه أن الألمان وصلوا في خمسة آلاف مقاتل وأن ملوك الفرنج كلهم كرهوا قدومهم عليهم لما يخافون من سطوته وزوال دولتهم بدولته ولم يفرح به إلا المركيس صاحب صور الذي أنشأ هذه الفتنة وأثار هذه المحنة - لعنه الله - فإنه تقوى به وبجيشه وكيده فإنه كان خبيرا بالحروب والقتال وأحدث أشياء كثيرة من آلات الحرب لم تخطر لأحد ببال نصب دبابات أمثال الجبال تسير بعجل ولها زلوم من حديد تنطح السور فتكسره وتثلم جوانبه فمن الله العظيم بإحراقها وإهلاكها وأراح الله المسلمين من شرها ولله الحمد ، ونهض بالعسكر الفرنجي فصادم به جيش المسلمين وناصب بالحرب صلاح الدين فمن الله سبحانه وله الحمد بالنصرة عليه وتقدمت الجيوش برمتها إليه فقتلوا من الكفرة خلقا كثيرا وجما غفيرا وهجموا مرة على المخيم بغتة فنهبوا شيئا كثيرا من الأمتعة فنهض إليهم الملك العادل [ ص: 616 ] أبو بكر - وكان رأس الميمنة - فركب في أصحابه وأمهل الفرنج حتى توغلوا بين الخيام ثم حمل عليهم بالرماح والحسام فتهاربوا بين يديه فما زال يقتل منهم جماعة بعد جماعة وفرقة بعد فرقة حتى كسى وجه الأرض منهم حللا أزهى من الرياض الباسمة وحزر ما قتل منهم فأقل ما قيل خمسة آلاف وزعم العماد وغيره أنه قتل منهم فيما بين الظهر إلى العصر عشرة آلاف ولله الحمد هذا وطرف الميسرة لم يشعر بما جرى بل وهم نائمون وقت القيلولة في خيامهم وكثير منهم ما درى .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وكان الذين ساقوا وراءهم وأسروهم أقل من ألف وإنما قتل من المسلمين عشرة أو دونهم وهذه نعمة عظيمة ونصرة عميمة وقد أوهن هذا جيش الفرنج وأضعفه ، وكادوا يطلبون الصلح وينصرفون عن البلد فاتفق قدوم مدد إليهم من البحر مع ملك يقال له : كندهري - لعنه الله - ومعه أموال كثيرة فأنفق عليهم وغرم عليهم وأمرهم أن يبرزوا معه للقاء السلطان صلاح الدين ونصب على عكا منجنيقين غرم على كل واحد منهما ألفا وخمسمائة دينار فأحرقهما أهل البلد وجاءت كتب صاحب الروم من القسطنطينية يعتذر إلى صلاح الدين من جهة ملك الألمان وأنه لم يجاوز ملكه ولا بلده باختياره وأنه تجاوزه لكثرة جنوده ولذلك بشر السلطان بأن الله سيهلكهم في كل مكان وكذلك وقع ولله الحمد القديم الإحسان وأرسل إلى السلطان يقول له : إني سأقيم عندي للمسلمين جمعة وخطيبا فأرسل السلطان مع رسوله خطيبا ومنبرا فكان يوم دخولهم إليه يوما مشهودا ومشهدا محمودا فأقيمت الخطبة ودعا للخليفة العباسي واجتمع فيها من هناك من المسلمين والتجار والمسافرين ولله الحمد رب العالمين

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية