الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          [ ص: 268 ] باب من الكلام في شبه العمد وهو عمد الخطأ قال أبو محمد رضي الله عنه : وقد ذكرناه قبل ولم نوضح فساد الأخبار التي موهوا بها ، وتناقض الطوائف الثلاث المالكيين ، والحنفيين ، والشافعيين فيها ; فوجب أن نستدرك ذلك ، كما فعلنا في سائر المسائل - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : شغب الحنفيون ، والشافعيون ، القائلون بعمد الخطأ - : بما روينا من طريق شعبة ، وسفيان الثوري ، كلاهما عن جابر الجعفي عن أبي عازب عن النعمان بن بشير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { كل شيء خطأ إلا السيف ، وفي كل خطأ أرش } .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد رضي الله عنه : جابر الجعفي كذاب ، وأول من شهد عليه بالكذب أبو حنيفة ، ثم لم يبال بذلك أصحابه ، فاحتجوا بروايته حيث اشتهوا ، ثم العجب كله أن الحنفيين ، والشافعيين : مخالفون لهذا الخبر ، عاصون له .

                                                                                                                                                                                          فالشافعيون : يرون القود في العمد بكل ما يمكن أن يمات من مثله ، والحنفيون : يرون القود على من ذبح بليطة القصب ، وعلى من أحرق بالنار ، وعلى من خنق ثلاث مرات ، فصاعدا - وكل هذا ليس فيه قتل بالسيف ، فمن أضل ممن يحتج بما هو أول مخالف له .

                                                                                                                                                                                          وأما المالكيون : فإنهم احتجوا بخلاف السنة الثابتة من صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس جالسا آخر صلاة صلاها بأصحابه رضي الله عنهم برواية جابر الجعفي الكذاب المذكور المرسلة أيضا { لا يؤمن أحد بعدي جالسا } ورأوه حينئذ حجة لازمة ، ترد به [ ص: 269 ] رواية أهل المدينة الثقات ، المسندة ، وآخر عمله عليه الصلاة والسلام إذا وافق رأي مالك ، ثم لم يكبر عليهم تكذيب جابر ورد روايته ، إذا خالف رأي مالك - فأي دين يبقى مع هذا ؟ وهل هذا إلا اتباع الهوى ، ولا مزيد ؟ قال أبو محمد رضي الله عنه : وقد روي هذا الخبر أيضا - من طريق عبد الباقي بن قانع راوي كل بلية وترك حديثه بأخرة عن محمد بن عثمان بن أبي شيبة عن عقبة بن مكرم عن يونس بن بكير عن قيس بن الربيع عن أبي حصين عن إبراهيم ابن بنت النعمان بن بشير عن النعمان بن بشير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم { كل شيء خطأ إلا السيف ولكل خطأ أرش } .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد رضي الله عنه : عبد الباقي لا شيء ، وقيس بن الربيع : ضعفه ابن معين ، وعفان ، ووكيع - وترك حديثه القطان ، وعبد الرحمن بن مهدي - وهو بعد - عن إبراهيم بن بنت النعمان الذي لا يدري أحد من هو ؟ واحتجوا أيضا - بما رويناه من طريق أبي بكر بن أبي شيبة عن عبد الرحمن بن سليمان عن إسماعيل بن مسلم عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم { العمد قود اليد إلا أن يعفو ولي المقتول } وفيه : فما كان من رمي ، أو ضربة بعصا ، أو رمية بحجر ، فهو مغلظ في أسنان الإبل .

                                                                                                                                                                                          ورويناه أيضا - من طريق عبد الرزاق عن الحسن بن عمارة عن عمرو بن دينار عن طاوس عن أبيه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم { من قتل في رميا رميا بحجر أو ضربا بعصا أو سوط ، فعليه عقل الخطأ ، ومن قتل اعتباطا فهو قود } .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق ابن الأعرابي عن عبد الرزاق ، قال ابن الأعرابي : لعله عن ابن جريج أخبرني ابن طاوس عن أبيه { : أن عنده كتابا جاء به الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه : قتل العمية - ديته دية الخطأ ، الحجر ، والسوط ، والعصا - ما لم يحمل سلاحا . } ورويناه من طريق أحمد بن شعيب أخبرني هلال بن العلاء أنا سعيد بن سليمان أنا سليمان بن كثير أنا عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم { من قتل [ ص: 270 ] في عميا أو رميا يكون بينهم بحجر أو بسوط أو بعصا فعقله عقل خطأ ومن قتل عمدا فقود يديه } .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق أحمد بن شعيب أنا محمد بن معمر أنا محمد بن كثير أنا سليمان بن كثير عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس - رفعه - بنحوه .

                                                                                                                                                                                          وما رويناه من طريق البزار أنا محمد بن مسكين أنا بكر بن مضر عن عمرو بن دينار قال : قال طاوس عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم { من قتل في عمية بحجر أو عصا فهو خطأ عقله عقل خطأ ومن قتل عمدا فهو قود } .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد رضي الله عنه : كل هذا لا حجة لهم فيه - : أما الخبر الذي صدرنا به من طريق ابن أبي شيبة ففيه إسماعيل بن مسلم - وهو مخزومي مكي ضعيف - ثم لو صح لكانوا كلهم مخالفين له - : أما الحنفيون - فإن في هذا الخبر ما كان من رمي ، أو ضربة بعصا ، أو رمية بحجر ، فهو مغلظ في أسنان الإبل - وهم يقولون : من رمي بسهم ، أو رمح ، ففيه القود ، ولم يخص في هذا الباب رميا من رمي ، بل فرق بين الرمي المطلق ، والرمي بالحجر ، والضربة بالعصا - فصح أنه الرمي بالرمح والسهم - وهم لا يقولون ذلك .

                                                                                                                                                                                          وكذلك خالفه الشافعيون أيضا في الرمي من كل ما يمات من مثله .

                                                                                                                                                                                          والمالكيون مخالفون له جملة .

                                                                                                                                                                                          وأما خبرا عبد الرزاق - أما الأول ، ففيه : الحسن بن عمارة - وهو هالك - وأما الثاني - فمرسل ، ثم إنه لو صحا جميعا لكانوا أيضا قد خالفوهما ; لأن فيهما : أن عقله عقل الخطأ - ولا يرى هذا أحد منهم .

                                                                                                                                                                                          أما الحنفيون ، والشافعيون - فيغلظون فيه الدية في الإبل ، بخلاف عقل الخطأ ; وأما المالكيون - فيرون فيه القود .

                                                                                                                                                                                          وأما خبرا سليمان بن كثير ، وبكر بن مضر - فصحيحان ، وبهما نقول ، وهما [ ص: 271 ] خلاف قولهم ; لأن فيهما : أن من قتل في عمية ، أو عميا ، فهو خطأ عقله عقل خطأ - فهذا قتيل لا يعرف قاتله ، وإذ هو كذلك فليس فيه إلا الدية ، وديته دية قتل الخطأ .

                                                                                                                                                                                          وفيهما - من قتل عمدا فهو قود ، فلم يخص عليه الصلاة والسلام سيفا من غيره ، ولا حديدة من غيرها ، بل أوجب فيه القود بمثل ما أصاب بيده - وهو قولنا ، لا قولهم - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          وموهوا أيضا - بخبر رويناه : من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج عن عمرو بن شعيب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { شبه العمد مغلظ ولا يقتل به صاحبه } وذلك أن ينزو الشيطان بين الناس ، فيكون رميا في عمياء ، عن غير ضغينة ، ولا حمل سلاح .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد رضي الله عنه : هذا مرسل لا حجة فيه ، وجميع الطوائف نقضت أصولها فيه - : أما الحنفيون - فأقحموا فيه من تعمد قتل مسلم بالخنق ، أو بالتغريق ، أو بشدخ رأسه بحجر فيه قنطار - وليس هذا مما فسر في هذا الخبر في شيء .

                                                                                                                                                                                          وأما المالكيون فهم يقولون : المرسل كالمسند - وهذا مرسل قد تركوه .

                                                                                                                                                                                          والشافعيون لا يرون الأخذ بالمرسل - وأخذوا هاهنا بمرسل .

                                                                                                                                                                                          وبما رويناه - من طريق أبي داود أنا محمد بن يحيى بن فارس أنا محمد بن بكار بن بلال أنا محمد بن راشد عن سليمان بن موسى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { : عقل شبه العمد مغلظ مثل عقل العمد ولا يقتل صاحبه } .

                                                                                                                                                                                          قال محمد بن يحيى بن فارس : وزاد : أنا خليل عن ابن راشد في هذا الخبر بإسناده : وذلك مثل أن ينزو الشيطان بين الناس فيكون دما في عمياء ، في غير ضغينة ، ولا حمل سلاح .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 272 ] قال أبو محمد رضي الله عنه : هذه صحيفة مرسلة لا يجوز الاحتجاج بها - ثم إنهم كلهم قد خالفوا ما في هذا الخبر .

                                                                                                                                                                                          أما أبو حنيفة وأصحابه فيقحمون في هذا القسم خلاف ما في الخبر ; لأنهم يجعلون من قتل في ضغينة وحمل سلاح فقتل بعمود حديد عمدا قصدا حكمه حكم من ذكر في هذا الخبر - وهو خلافه جهارا .

                                                                                                                                                                                          ولم يدخل الشافعيون فيه : من قتل في عميا قصدا بما قد يمات من مثله من عصا ونحوها - وخالفه المالكيون جملة .

                                                                                                                                                                                          وموهوا أيضا - بما روينا من طريق شعبة عن أيوب السختياني سمعت القاسم بن ربيعة عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { قتل الخطأ شبه العمد قتيل السوط والعصا مائة من الإبل أربعون منها في بطونها أولادها } .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد رضي الله عنه : هذا خبر مدلس ، سقط منه بين القاسم بن ربيعة وبين عبد الله بن عمر رجل - .

                                                                                                                                                                                          كما رويناه من طريق أحمد بن شعيب أنا يحيى بن حبيب بن عربي أنا حماد بن زيد عن خالد الحذاء عن القاسم بن ربيعة عن عقبة بن أوس عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكر فيه هذا الخبر بعينه .

                                                                                                                                                                                          وعقبة بن أوس مجهول لا يدرى من هو ؟ ولا يصح للقاسم بن ربيعة سماع من عبد الله بن عمرو .

                                                                                                                                                                                          وقد رويناه أيضا : عن القاسم بن ربيعة بخلاف هذا كما أنا حمام أنا عباس بن أصبغ أنا محمد بن عبد الملك بن أيمن أنا أحمد بن زهير بن حرب ثنا أبي ثنا ابن علية عن خالد الحذاء عن القاسم بن ربيعة عن يعقوب بن أوس رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة فقال : ألا إن قتيل خطأ العمد } قال خالد : أو قال { قتيل الخطأ شبه العمد قتيل السوط ، والعصا منها أربعون في بطونها أولادها } .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد رضي الله عنه : يعقوب بن أوس مجهول لا صحبة له .

                                                                                                                                                                                          كما روينا هذا الخبر نفسه من طريق أحمد بن شعيب أنا إسماعيل بن مسعود - هو الجحدري - [ ص: 273 ] أنا بشر بن المفضل عن خالد الحذاء عن القاسم بن ربيعة عن يعقوب بن أوس عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكر هذا الخبر نفسه .

                                                                                                                                                                                          وقد رويناه أيضا - من طريق أسقط من هذه .

                                                                                                                                                                                          كما روينا - من طريق حماد بن سلمة ، وسفيان بن عيينة ، قال حماد : أنا علي بن زيد بن جدعان عن يعقوب السدوسي عن عبد الله بن عمرو - هو ابن العاص { أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يوم الفتح فقال ألا إن دية العمد الخطأ بالسوط والعصا : دية مغلظة مائة من الإبل فيها أربعون خلفة في بطونها أولادها } .

                                                                                                                                                                                          وقال سفيان : أنا ابن جدعان سمعه من القاسم بن ربيعة عن ابن عمرو فذكره - وابن جدعان هذا هو علي بن زيد ضعيف جدا - ويعقوب السدوسي مجهول - ولم يلق القاسم بن ربيعة ابن عمرو قط - فسقط جملة - والحمد لله رب العالمين .

                                                                                                                                                                                          ومع ذلك فإن الطوائف الثلاث نقضت فيه أصولها - : أما الحنفيون - حاشا محمد بن الحسن - فلا يرون دية عمد الخطأ إلا خمسا وعشرين بنت مخاض ، وخمسا وعشرين بنت لبون ، وخمسا وعشرين حقاقا وخمسا وعشرين جذعة - بخلاف ما في هذا الخبر .

                                                                                                                                                                                          وأما المالكيون - فخالفوه كله .

                                                                                                                                                                                          وأما الشافعيون - فلا يرون ذلك في العصا التي يمات من مثل ضربتها ، ولا في الضرب بالسوط عمدا ، حتى يموت ، بل يرون في هذا القود خلافا لهذا الخبر ، مع أنهم لا يقولون إلا بالمسند من رواية المشهورين - وليس هذا الخبر من هذا النمط .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية