الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى: وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا الآية (101) .

فأباح القصر بشرطين: الضرب في الأرض، والخوف.

وظن ظانون أن المراد بالقصر ها هنا، القصر في صفة الصلاة، بترك الركوع والسجود إلى الإيماء، وترك القيام إلى الركوب.

والرازي اختار هذا وقال: الذي حمله على أن القصر عزيمة عندهم، وأن فريضة الصلاة في حق المسافر ما نزلت إلا ركعتين فلا قصر، ولا يقال في العزيمة لا جناح، ولا يقال فيما شرع ركعتين إنه قصر، كما لا يقال في صلاة الصبح ذلك، فلا جرم اختار الأول.

واحتج عليه بأن الله تعالى قيد القصر بشرطين، والذي يعتبر فيه الشرطان إنما هو صلاة الخوف.

والذي ذكره فاسد من وجهين:

أحدهما: أن صلاة الخوف لا يعتبر فيها الشرطان، فإنه لو لم يضرب في الأرض، ولم يوجد السفر، بل جاءنا الكفار وغزونا في بلادنا، فتجوز صلاة الخوف، فلا يعتبر وجود الشرطين على ما قاله.

[ ص: 488 ] فإن حملنا على قصر الصفة، لم يشترط فيه الضرب في الأرض.

وإن حملنا على قصر الركعات، لم يعتبر فيه الخوف، فسقط ترجيحه أحد الحملين على الآخر، باعتبار الشرطين فيه.

الثاني: أن في الأخبار ما يدل على أن المراد بكتاب الله تعالى ما قلناه، وهو ما روي عن يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: كيف نقصر وقد أمنا؟ وقال الله تعالى: فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم الآية، فقال: عجبت مما عجبت، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته".

وقوله لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لنا لا نقصر وقد أمنا؟ دليل قاطع على أن مفهوم الآية القصر في الركعات، ولم يذكر أصحاب أبي حنيفة على هذا تأويلا يساوي الذكر.

وإذا قالوا لم يشرع الله في السفر إلا ركعتين، فليست الأربعة مشروعة، وإذا لم تكن الأربعة مشروعة ما دام السفر، فلم صح الاقتداء بالمقيم، وإذا اقتدي به، فلم لزمته الأربع؟ وقد قالوا: لو اقتدي به في التشهد لزمه الأربع، ومالك يشترط إدراك ركعة.

فإن قيل لنا: وعندكم، لم لزمته الأربع؟

قيل: إن نوى الأربع، فليلزمه الأربع، وإن لم ينو فلا، فهو صحيح على أصلنا.

فأما عندهم فاختلاف الصلاتين يمنع القدوة، وهذا بين.

[ ص: 489 ] ولا فرق بين سفر الحج والغزو، وسفر التجارة.

وابن مسعود يقول: لا نقصر إلا في حج أو جهاد.

وعطاء يقول: لا أرى القصر إلا في سبيل من سبل الله عز وجل.

وقول الله تعالى: وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح يعم كل سفر.

وقال مالك: إذا خرج للصيد لا لمعاشه ولكن متنزها، أو خرج لمشاهدة بلده متنزها ومتلذذا، لم يقصر.

وقال الشافعي رضي الله عنه: لا قصر في سفر المعصية.

وقد شرحنا ذلك في سورة البقرة.

وقوله ضربتم في الأرض مطلق، وقوله: يمسح المسافر ثلاثة أيام مطلق، غير أن الإطلاق يقيد بالمعنى المفهوم من الرخص.

ولعل أبا حنيفة يرى القصر عزيمة فيقول: صلاة غير المقيم لم تشرع إلا كذلك، فإذا لم تشرع في غير حالة الإقامة إلا كذلك، لم تكن شرعت لإعانته على ما هو بصدده.

إلا أن هذا الكلام باطل بالوجوه التي قدمناها.

والإشكال أنه ليس في كتاب الله تعالى تقييد المدة، ويعتبر في السفر مسيرة ثلاثة أيام أو ستة عشر فرسخا، على ما اختلف العلماء وبينا سببه فيما تقدم فلا نعيده.

التالي السابق


الخدمات العلمية