الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          [ ص: 1122 ] كدأب آل فرعون والذين من قبلهم الدأب: العادة والشأن، وأصله من: دأب الرجل في عمل يدأب دأبا ودءوبا: إذا جد فيه واجتهد، ثم أطلق الدأب على العادة والشأن؛ لأن من يدأب في عمل ويستمر عليه أمدا طويلا يصير شأنا له، وحالا من أحواله، وعادة من عاداته؛ فهو من باب إطلاق اسم السبب وإرادة المسبب. وآل فرعون، وهم نصراؤه وأهل حوزته ومعاضدوه، قد استمرءوا الطغيان وألفوه حتى صار الكفر دأبا وعادة وشأنا من شئونهم.

                                                          وقد شبه الله سبحانه وتعالى حال الكافرين الذين كفروا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وما جاء به، بحال آل فرعون والذين سبقوا فرعون من الطغاة العتاة القساة المغرورين، وقد كان وجه الشبه في أمرين: أولهما: أن الغرور هو الذي دفع إلى الجحود واللجاجة فيه والإصرار عليه، حتى إنهم ليردون الدليل تلو الدليل، وما تزيدهم الآيات إلا كفورا، وما تزيدهم الموعظة إلا عتوا في الأرض وفسادا.

                                                          وثانيهما: في الجزاء.

                                                          وهنا يرد سؤالان أولهما: لم ذكر آل فرعون، ولم يذكر فرعون؟ والثاني: لماذا نص على قوم فرعون من بين الذين سبقوهم بالكفر والجحود ومعاندة النبيين؟ والجواب عن السؤال الأول: أن ذكر آل فرعون يتضمن ذكر فرعون؛ لأنه إذا كان العناد في التابع فهو في المتبوع أشد؛ وفوق ذلك فإن آل فرعون وحاشيته ونصراءه هم السبب في طغيانه، وهم الذين سهلوا له سبيل الطغيان وضنوا بالموعظة في إبانها، وهم الذين حرضوه على الاستمرار في الشر والإيغال فيه، فهم اتبعوه أولا، ثم حرضوه على الطغيان ثانيا بمبالغتهم في مرضاته، واستحسان ما يفعل.

                                                          وأما الجواب عن السؤال الثاني، وهو اختصاص فرعون وآله بالذكر؛ فلأن فرعون كان أقوى الطغاة وأشدهم، وكان أكثرهم مالا، وأعزهم نفرا، [ ص: 1123 ] وأكثرهم غرورا، أليس هو القائل: أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أليس هو الذي ذهب به فرط غروره إلى أن يقول في حماقة ظاهرة: يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى ولقد كان مستكبرا يصم آذانه عن سماع الحق حتى لقد قال سبحانه فيه: واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق

                                                          ولقد بين سبحانه وتعالى نتيجة الغرور في آل فرعون والذين من قبلهم، وهو التكذيب بآيات الله، وقد ترتب على التكذيب نزول العقاب الشديد؛ سنة الله في الذين كفروا ولجوا ولم يثوبوا إلى رشدهم، وينيبوا إلى ربهم، فقال سبحانه: كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب هذا هو الدأب والعادة، وهو الغرور المردي، وهذه نتائجه التي تجمع بين المغرورين دائما، وهو التكذيب بآيات الله تعالى. وفي هذه الجملة السامية يقرر الله سبحانه ثلاث حقائق ثابتة؛ اثنتان منها تتعلقان بالكافرين المغرورين، وهما: التكذيب بآيات الله تعالى، والعقاب الذي يأخذهم سبحانه وتعالى به؛ والثالثة بيان شأن من شئون الله تعالى جلت قدرته، وهو أنه سبحانه وتعالى شديد العقاب، كما أنه سبحانه غفور رحيم، وأنه المنتقم الجبار، كما أنه اللطيف الخبير.

                                                          فأما الحقيقة الأولى؛ فقد قال سبحانه فيها كذبوا بآياتنا أي: كذبوا بالآيات والأدلة التي تثبت رسالات الرسل، وتثبت وحدانية الله تعالى. وأضاف سبحانه الآيات إليه جلت قدرته، للإشارة إلى عظم دلالتها وقوة إثباتها، وأنها آيات الخالق لتعريف خلقه، وأدلة الواحد الأحد لإثبات وحدانيته، ومع ذلك لجوا واستمروا في غيهم يعمهون.

                                                          والحقيقة الثانية: قال سبحانه وتعالى فيها: فأخذهم الله بذنوبهم أي أنه سبحانه وتعالى يعاقبهم على هذه الذنوب بما يساويها، وبما يقابلها، وعبر عن العقاب بهذا التعبير؛ لأنه يفيد أمورا ثلاثة: [ ص: 1124 ] أولها: أن الأخذ يفيد الوقوع التام في سلطان الله تعالى، فهو سبحانه أخذهم كما يؤخذ الأسير، لا يستطيع من أمره فكاكا.

                                                          ثانيها: أن التعبير بالباء يفيد أمرين: المصاحبة والمقابلة؛ فهم قد أخذوا مصاحبين ومتلبسين بذنوبهم لم يقلعوا، ولم يتوبوا، بل استمروا على حالهم ملابسين لها ومقترنة بهم، كما تدل على أن العقاب مقابل للذنوب، فهو بدل ببدل، وكما أنهم قدموا الذنب، فليتسلموا العقاب.

                                                          وثالثها: أن هذا التعبير فيه إشارة إلى عدل الله سبحانه وتعالى الكامل؛ فالذنب هو الذي ولد العقاب، وهو يماثله تمام المماثلة، وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون.

                                                          والحقيقة الثالثة: قال سبحانه وتعالى فيها: والله شديد العقاب وفي ذكر هذا الوصف للذات العلية إشارة إلى شدة العقاب لشدة الجريمة، وإشارة إلى أن العدالة الإلهية تقتضي شدة العقاب؛ لأنه لا يستوي الذين يحسنون والذين يسيئون، ولا يستوي الأخيار والأشرار؛ فإن المساواة هي الظلم في هذه الحال.

                                                          ثم في هذا الوصف للذات العلية تعليم للناس بأن كل فعل يجب أن يكون له جزاؤه فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره

                                                          وهذا النص الكريم فوق ذلك يربي المهابة في النفس، ويجعل كل مؤمن يغلب الخوف على الرجاء، فإن الخوف يجعل العابد يستشعر الطاعة دائما ولا يدل بالعبادة، وتغليب الرجاء يمكن للنفس الأمارة بالسوء أن تسيطر، ويجعل العابد يدل بعبادته.

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية