الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون

جملة معترضة ، والمراد بالقرية أهلها . وهذا يعم كل قرية من قرى الكفر ، كما قال تعالى : وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا . والحرام : الشيء الممنوع ، قال عنترة :

حرمت علي وليتها لم تحرم



أي منعت ؛ أي منعها أهلها . [ ص: 145 ] أي ممنوع على قرية قدرنا إهلاكها أن لا يرجعوا ، فـ ( حرام ) خبر مقدم و أنهم لا يرجعون في قوة مصدر مبتدأ . والخبر عن ( أن ) وصلتها لا يكون إلا مقدما ، كما ذكره ابن الحاجب في أماليه في ذكر هذه الآية .



وفعل ( أهلكناها ) مستعمل في إرادة وقوع الفعل ، أي أردنا إهلاكها .

والرجوع : العود إلى ما كان فيه المرء ; فيحتمل أن المراد رجوعهم عن الكفر فيتعين أن تكون ( لا ) في قوله تعالى ( لا يرجعون ) زائدة للتوكيد ، لأن ( حرام ) في معنى النفي و ( لا ) نافية ونفي النفي إثبات ، فيصير المعنى منع عدم رجوعهم إلى الإيمان ، فيؤول إلى أنهم راجعون إلى الإيمان ، وليس هذا بمراد . فتعين أن المعنى : منع على قرية قدرنا هلاكها أن يرجعوا عن ضلالهم لأنه قد سبق تقدير هلاكها . وهذا إعلام بسنة الله تعالى في تصرفه في الأمم الخالية مقصود منه التعريض بتأييس فريق من المشركين من المصير إلى الإيمان ، وتهديدهم بالهلاك . وهؤلاء هم الذين قدر الله هلاكهم يوم بدر بسيوف المؤمنين .

ويجوز أن يراد رجوعهم إلى الآخرة بالبعث ، وهو المناسب لتفريعه على قوله تعالى كل إلينا راجعون فتكون ( لا ) نافية . والمعنى : ممنوع عدم رجوعهم إلى الآخرة الذي يزعمونه ، أي دعواهم باطلة ، أي فهم راجعون إلينا فمجازون على كفرهم ، فيكون إثباتا للبعث بنفي ضده ، وهو أبلغ من صريح الإثبات لأنه إثبات بطريق الملازمة فكأنه إثبات الشيء بحجة . ويفيد تأكيدا لقوله تعالى كل إلينا راجعون .

وجملة ( أهلكناها ) إدماج للوعيد بعذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة .

وفعل ( أهلكناها ) مستعمل في أصل معناه ، أي وقع إهلاكنا إياها . والمعنى : ما من قرية أهلكناها فانقرضت من الدنيا إلا وهم راجعون [ ص: 146 ] إلينا بالبعث . وقيل ( حرام ) اسم مشترك بين الممنوع والواجب . وأنشدوا قول الخنساء :

وإن حراما لا أرى الدهر باكـيا     على شجوة إلا بكيت على صخر



وفي كتاب لسان العرب في حديث عمر : في الحرام كفارة يمين : هو أن يقول الرجل : حرام الله لا أفعل ، كما يقول : يمين الله لا أفعل ، وهي لغة العقيليين اهـ .

ورأيت في مجموعة أدبية عتيقة من كتب جامع الزيتونة عددها 4561 : أن بني عقيل يقولون حرام الله لآتينك ؛ كما يقال يمين الله لآتينك اهـ . وهو يشرح كلام لسان العرب بأن هذا اليمين لا يختص بالحلف على النفي كما في مثال لسان العرب . فيتأتى على هذا وجه ثالث في تفسير قوله تعالى وحرام على قرية أهلكناها أنهم إلينا لا يرجعون أي ويمين منا على قرية ، فحرف ( على ) داخل على المسلطة عليه اليمين ، كما تقول : عزمت عليك ، وكما يقال : حلفت على فلان أن لا ينطق . كقول الراعي :

إني حلفت على يمين برة     لا أكتم اليوم الخليفة قيلا



وفتح همزة ( أن ) في اليمين أحد وجهين فيها في سياق القسم . ومعنى ( لا يرجعون ) على هذا الوجه : لا يرجعون إلى الإيمان لأن الله علم ذلك منهم فقدر إهلاكهم .

وقرأ الجمهور ( وحرام ) بفتح الحاء وبألف بعد الراء .

وقرأه حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم ( وحرم ) بكسر الحاء وسكون الراء ، وهو اسم بمعنى حرام . والكلمة مكتوبة في المصحف بدون ألف ومروية في روايات القراء بوجهين ، وحذف الألف المشبعة من الفتحة كثير في المصاحف .

التالي السابق


الخدمات العلمية