الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                  صفحة جزء
                                                                  حديث هند بن أبي هالة في صفة النبي صلى الله عليه وسلم

                                                                  29 - حدثنا علي بن عبد العزيز ، حدثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل [ ص: 246 ] النهدي ، ثنا جميع بن عمر العجلي ، قال : حدثني رجل بمكة ، عن ابن أبي هالة التميمي ، عن الحسن بن علي بن أبي طالب ، قال : سألت خالي هند بن أبي هالة وكان وصافا عن حلية النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأنا أشتهي أن يصف لي منها شيئا أتعلق به . فقال : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخما مفخما ، يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر ، أطول من المربوع ، وأقصر من المشذب ، عظيم الهامة ، رجل الشعر ، إن انفرقت عقيصته فرق ، وإلا فلا ، يجاوز شعره شحمة أذنيه إذا هو وفره ، أزهر اللون ، واسع الجبين ، أزج الحواجب سوابغ في غير قرن ، بينهما عرق يدره الغضب ، أقنى العرنين ، له نور يعلوه ، يحسبه من لم يتأمله أشم ، كث اللحية ، سهل الخدين ، ضليع الفم ، أشنب ، مفلج الأسنان ، دقيق المسربة ، كأن عنقه جيد دمية في صفاء الفضة ، معتدل الخلق ، بادن متماسك ، سواء البطن والصدر ، عريض الصدر ، بعيد ما بين المنكبين ، ضخم الكراديس ، أنور المتجرد ، موصول ما بين اللبة والسرة بشعر يجري كالخط ، عاري الثديين والبطن مما سوى ذلك ، أشعر الذراعين والمنكبين وأعالي الصدر ، طويل الزندين ، رحب الراحة ، سبط القصب ، شثن الكفين والقدمين ، سائل الأطراف ، خمصان الأخمصين ، مسيح القدمين ينبو عنهما الماء ، إذا زال زال قلعا ، يخطو تكفيا ، ويمشي هونا ، ذريع المشية ، إذا مشى كأنما ينحط من صبب ، وإذا التفت التفت جميعا ، خافض الطرف ، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء ، جل نظره الملاحظة ، يسبق أصحابه ، يبدر من لقيه بالسلام . قلت : صف لي منطقه ، قال : " كان رسول الله متواصل الأحزان ، دائم [ ص: 247 ] الفكرة ، ليست له راحة ، لا يتكلم في غير حاجة ، طويل السكت ، يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه ، ويتكلم بجوامع الكلم ، فصل ، لا فضول ولا تقصير ، دمث ، ليس بالجافي ولا المهين ، يعظم النعمة وإن دقت ، لا يذم منها شيئا ، لا يذم ذواقا ولا يمدحه ، ولا تغضبه الدنيا ولا ما كان لها ، فإذا تعوطي الحق لم يعرفه أحد ، ولم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر له ، لا لغضب لنفسه ولا ينتصر لها ، إذا أشار أشار بكفه كلها ، وإذا تعجب قلبها ، وإذا تحدث اتصل بها فيضرب بباطن راحته اليمنى باطن إبهامه اليسرى ، وإذا غضب أعرض وأشاح ، وإذا فرح غض طرفه ، جل ضحكه التبسم ، ويفتر عن مثل حب الغمام " .

                                                                  قال : فكتمتها الحسين زمانا ثم حدثته فوجدته قد سبقني إليه فسأله عما سألته عنه ، ووجدته قد سأل أباه عن مدخله ومجلسه ومخرجه وشكله ، فلم يدع منه شيئا .

                                                                  قال الحسين : سألت أبي عن دخول النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : " كان دخوله لنفسه مأذونا له في ذلك ، وكان إذا أوى إلى منزله جزأ دخوله ثلاثة أجزاء : جزء لله ، وجزء لنفسه ، وجزء لأهله ، ثم جزأ جزءه بينه وبين الناس ، فيرد ذلك على العامة بالخاصة ، ولا يدخر عنهم شيئا ، وكان من سيرته في جزء الأمة إيثار أهل الفضل بإذنه وقسمه على قدر فضلهم في الدين ، فمنهم ذو الحاجة ، ومنهم ذو الحاجتين ، ومنهم ذو الحوائج ، فيتشاغل بهم فيما أصلحهم والأمة عن شيء سألهم عنه وإخبارهم بالذي ينبغي لهم ، ويقول : " ليبلغ الشاهد الغائب ، وأبلغوني حاجة من لا يستطيع إبلاغ حاجته ، وإنه من أبلغ [ ص: 248 ] سلطانا حاجة من لا يستطيع إبلاغها إياه ، ثبت الله قدميه يوم القيامة " لا يذكر عنده إلا ذلك ، ولا يقبل من أحد غيره ، يدخلون عليه روادا ولا يفترقون إلا عن ذواق ، ويخرجون من عنده أدلة " .

                                                                  قال : فسألته عن مخرجه كيف كان يصنع فيه ؟ فقال : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخزن لسانه إلا مما يعينهم ويؤلفهم ، ولا يفرقهم ، ولا ينفرهم ، ويكرم كريم كل قوم ويوليه عليهم ، ويحذر الناس ويحترس منهم من غير أن يطوي عن أحد بشره ولا خلقه ، يتفقد أصحابه ، ويسأل الناس عما في الناس ، ويحسن الحسن ويقويه ، ويقبح القبيح ويوهنه ، معتدل الأمر غير مختلف ، لا يغفل مخافة أن يغفلوا أو يميلوا ، لكل حال عنده عتاد ، لا يقصر عن الحق ولا يجوزه ، الذين يلونه من الناس خيارهم ، أفضلهم عنده أعمهم نصيحة ، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة ومؤازرة " .

                                                                  قال : فسألته عن مجلسه .

                                                                  قال : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر الله ، ولا يوطن الأماكن ، وينهى عن إيطانها ، وإذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس ، ويأمر بذلك ، ويعطي كل جلسائه بنصيبه ، لا يحسب جليسه أن أحدا أكرم عليه منه ، من جالسه أو قاومه في حاجة صابره حتى يكون هو المنصرف ، ومن سأله حاجة لم يرد إلا بها أو بميسور من القول ، قد وسع الناس منه بسطته وخلقه ، فصار لهم أبا ، وصاروا في الحق عنده سواء ، مجلسه مجلس حلم ، وحياء ، وصبر ، [ ص: 249 ] وأمانة ، لا ترفع فيه الأصوات ، ولا تؤبن فيه الحرم ، ولا تنثى فلتاته ، متفاضلين ، متعادلين فيه بالتقوى ، متواضعين ، يوقرون الكبير ، ويرحمون الصغير ، ويؤثرون ذا الحاجة ، ويحفظون الغريب " .

                                                                  قلت : كيف كانت سيرته في جلسائه ؟

                                                                  قال : " كان رسول الله دائم البشر ، سهل الخلق ، لين الجانب ، ليس بفظ ، ولا غليظ ، ولا صخاب ، ولا فحاش ، ولا غياب ، ولا مداح ، متغافل عما لا يشتهي ، ولا يوئس منه ، ولا يخيب فيه ، قد ترك نفسه من ثلاث : المراء ، والإكثار ، ومما لا يعنيه ، وترك الناس من ثلاث : كان لا يذم أحدا ولا يعيره ، ولا يطلب عورته ، ولا يتكلم إلا فيما رجا ثوابه ، وإذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رءوسهم الطير ، وإذا سكت تكلموا ، ولا يتنازعون عنده ، من تكلم أنصتوا له حتى يفرغ ، حديثهم عنده حديث أوليتهم ، يضحك مما يضحكون منه ، ويتعجب مما يتعجبون منه ، ويصبر للغريب على الجفوة في منطقه ومسألته ، حتى إذا كان أصحابه ليستجلبونهم ، ويقول : " إذا رأيتم طالب الحاجة يطلبها فأرشدوه " ، ولا يقبل الثناء إلا من مكافئ ، ولا يقطع على أحد حديثه حتى يجوزه فيقطعه بنهي أو قيام " . قلت : كيف كان سكوته ؟ قال : " كان سكوت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أربع : على الحلم ، والحذر ، والتقدير ، والتفكر ، فأما تقديره ففي تسويته النظر والاستماع بين الناس ، وأما تفكره أو قال : تذكره ففيما يبقى ويفنى ، وجمع له [ ص: 250 ] الحلم في الصبر ، وكان لا يغضبه ولا يستفزه شيء . جمع له الحذر في أربع : أخذه بالحسنى ؛ ليقتدوا به ، وتركه القبيح ؛ ليتناهوا عنه ، واجتهاده الرأي فيما يصلح أمته ، والقيام فيما جمع لهم من أمر الدنيا والآخرة " .


                                                                  التالي السابق


                                                                  الخدمات العلمية