الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                        [ ص: 326 ] باب الجزية ( وهي على ضربين : جزية توضع بالتراضي والصلح فتتقدر بحسب ما يقع عليه الاتفاق ) كما { صالح رسول الله عليه الصلاة والسلام أهل نجران على ألف ومائتي حلة } ، ولأن الموجب هو التراضي فلا يجوز التعدي إلى غير ما وقع عليه الاتفاق ( وجزية يبتدئ الإمام وضعها إذا غلب الإمام على الكفار وأقرهم على أملاكهم ، فيضع على الغني الظاهر الغنى في كل سنة ثمانية وأربعين درهما يأخذ منهم في كل شهر أربعة دراهم ، وعلى وسط الحال أربعة وعشرين درهما في كل شهر درهمين ، وعلى الفقير المعتمل اثني عشر درهما في كل شهر درهما ) وهذا عندنا . وقال الشافعي رحمه الله : يضع على كل حالم دينارا أو ما يعدل الدينار الغني والفقير في ذلك سواء [ ص: 327 ] لقوله عليه الصلاة والسلام لمعاذ رضي الله عنه : { خذ من كل حالم وحالمة دينارا أو عدله معافر من غير فصل }ولأن الجزية إنما وجبت بدلا عن القتل حتى لا تجب على من لا يجوز قتله بسبب الكفر كالذراري والنسوان ، وهذا المعنى ينتظم الفقير والغني . [ ص: 328 - 329 ] ومذهبنا منقول عن عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم ، ولم ينكر عليهم أحد من المهاجرين والأنصار ولأنه وجب نصرة للمقاتلة فتجب على التفاوت بمنزلة خراج الأرض ، وهذا لأنه وجب بدلا عن النصرة بالنفس والمال وذلك يتفاوت بكثرة الوفر وقلته فكذا ما هو بدله ، وما رواه محمول على أنه كان ذلك صلحا ، ولهذا أمره بالأخذ من الحالمة وإن كانت لا يؤخذ منها الجزية .

                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                        باب الجزية

                                                                                                        الحديث الأول : روي أن { رسول الله صلى الله عليه وسلم صالح بني نجران على ألف ومائتي حلة }; قلت : أخرجه أبو داود في " كتاب الخراج " عن إسماعيل بن عبد الرحمن السدي [ ص: 327 ] عن ابن عباس ، قال : { صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل نجران على ألفي حلة ، النصف في صفر ، والبقية في رجب ، يؤدونها إلى المسلمين ، وعارية ثلاثين درعا ، وثلاثين فرسا ، وثلاثين بعيرا ، وثلاثين من كل صنف من أصناف السلاح ، يغزون بها ، والمسلمون ضامنون لها حتى يردوها عليهم إن كان باليمن ، كيد ، أو غدرة ، على أن لا تهدم لهم بيعة ، ولا يخرج لهم قس ، ولا يفتنوا عن دينهم ، ما لم يحدثوا حدثا ، أو يأكلوا الربا }انتهى .

                                                                                                        قال المنذري : في سماع السدي من ابن عباس نظر ، وإنما قيل : إنه رآه ، ورأى ابن عمر ، وسمع من أنس بن مالك انتهى .

                                                                                                        الحديث الثاني : قال عليه السلام لمعاذ : { خذ من كل حالم ، وحالمة دينارا أو عدله معافر }; قلت : أخرجه أبو داود ، والترمذي والنسائي " في الزكاة " عن الأعمش عن أبي وائل ، عن مسروق عن معاذ ، قال : { بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن ، وأمرني أن آخذ من البقر من كل ثلاثين تبيعا أو تبيعة ، ومن كل أربعين مسنة ، ومن كل حالم دينارا أو عدله معافر }انتهى .

                                                                                                        قال الترمذي : حديث حسن ، وذكر أن بعضهم رواه عن مسروق عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا ، قال : وهو أصح انتهى .

                                                                                                        ورواه ابن حبان في " صحيحه " في النوع الحادي والعشرين ، من القسم الأول ، والحاكم في " المستدرك " ، وقال : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه ، انتهى . ويراجعان ، فإن ابن ماجه رواه ، ولم يذكر فيه قصة الحالم ، وإن كان أصحاب " الأطراف " عزوه إليه أيضا ، لأنهم إنما يعتبرون أصل الحديث ، وأنصف ابن تيمية في " المنتقى " إذ قال بعد أن عزاه لأصحاب السنن : وليس لابن ماجه ذكر الحالم ، ووهم ابن دقيق العيد في " الإلمام " فعزاه لأصحاب السنن . ولم يستثن ، وأقوى منه في الوهم ما فعله بعض أهل العصر في كتاب وضعه على التنبيه [ ص: 328 ] لأبي إسحاق الشيرازي ، فذكر في " باب الجزية " عن { معاذ قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن ، فقال : خذ من كل حالم دينارا ; أو عدله معافر } ، ثم قال : أخرجه أصحاب السنن ، وليس هذا عند ابن ماجه ، والله أعلم ; ولفظة الحالمة : رويت فيه أيضا مرسلا ومسندا ; فالمسند رواه عبد الرزاق في " مصنفه " حدثنا معمر ، وسفيان الثوري عن الأعمش عن أبي وائل عن مسروق عن معاذ بن جبل { أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن ، فأمره أن يأخذ من كل ثلاثين بقرة تبيعا أو تبيعة ، ومن كل أربعين مسنة ، ومن كل حالم وحالمة دينارا ، أو عدله معافر }انتهى .

                                                                                                        ومن طريق عبد الرزاق رواه الدارقطني في " سننه في كتاب الزكاة " ، ورواه إسحاق بن راهويه في " مسنده " من ثلاث طرق دائرة على الأعمش به ، وأما المرسل فرواه عبد الرزاق أيضا أخبرنا معمر عن الأعمش عن شقيق بن سلمة عن مسروق قال : { بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل إلى اليمن ، فأمره أن يأخذ من كل حالم وحالمة من أهل الذمة دينارا أو قيمته معافري }.

                                                                                                        قال : وكان معمر يقول : هذا غلط ، قوله : حالمة ليس على النساء شيء انتهى .

                                                                                                        { حديث آخر } : رواه أبو داود في " المراسيل " عن جرير عن منصور عن الحكم ، قال : { كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى معاذ باليمن : على كل حالم وحالمة دينار أو قيمته }انتهى .

                                                                                                        { حديث آخر } : بمعناه ، رواه أبو عبيد القاسم بن سلام " في كتاب الأموال " حدثنا عثمان بن صالح عن عبد الله بن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة عن الزبير قال : { كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن أنه من كان على يهودية أو نصرانية ، فإنه لا يفتن عنها ، وعليه الجزية على كل حالم ذكر أو أنثى ، عبد أو أمة ، دينار واف ، أو قيمته }انتهى .

                                                                                                        { حديث آخر } : بمعناه ، رواه ابن زنجويه النسائي في " كتاب الأموال " حدثنا النضر بن شميل ثنا عوف عن الحسن ، قال : { كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن : من أسلم من يهودي أو نصراني فله ما للمسلم ، وعليه ما عليه ، ومن أبى فعليه الجزية ، على كل حالم من ذكر أو أنثى ، حر أو عبد ، دينار واف أو قيمته من المعافر ، في كل عام }انتهى .

                                                                                                        { حديث آخر } بمعناه : رواه ابن زنجويه أيضا حدثنا هاشم بن القاسم حدثني المرجى بن رجاء ثنا سليمان بن حفص عن أبي إياس معاوية بن قرة ، قال : { كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى [ ص: 329 ] مجوس هجر ، أما بعد : من شهد منكم أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، واستقبل قبلتنا ، وأكل ذبيحتنا فله مثل ما لنا ، وعليه مثل ما علينا ، ومن أبى فعليه الجزية على كل رأس دينار ، على الذكر والأنثى ، ومن أبى فليأذن بحرب من الله ورسوله }انتهى .

                                                                                                        قال أبو عبيد : وهذا والله أعلم فيما نرى منسوخ ، إذ كان في أول الإسلام نساء المشركين وولدانهم يقتلون مع رجالهم ، والمحفوظ من ذلك الحديث الذي لا ذكر للحالمة فيه ، لأنه الأمر الذي عليه المسلمون ، وبه كتب عمر إلى أمراء الأجناد ، فإن كان الذي فيه ذكر الحالمة محفوظا فوجهه ما ذكرناه ، كما روى الصعب بن جثامة { أن خيلا أصابت من أبناء المشركين ، فقال عليه السلام : هم من آبائهم } ، ثم جاء النهي عن قتل الذرية من النساء والصبيان في أحاديث كثيرة انتهى .

                                                                                                        قال ابن زنجويه : ويؤيد ما قاله أبو عبيد ما أخبرنا يعلى بن عبيد ثنا محمد بن عمرو عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس عن الصعب بن جثامة ، قال : { سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين نقتلهم معهم ؟ قال : نعم ، فإنهم منهم ، ثم نهى عن قتلهم يوم خيبر } ، انتهى .

                                                                                                        قوله : ومذهبنا روي عن عمر ، وعثمان ، وعلي رضي الله عنهم ، ولم ينكر عليهم أحد من المهاجرين والأنصار ; قلت : أما الرواية عن عمر فروى ابن أبي شيبة في " مصنفه في الإمارة " حدثنا علي بن مسهر عن الشيباني عن أبي عون محمد بن عبيد الله الثقفي ، قال : وضع عمر بن الخطاب في الجزية على رءوس الرجال على الغني ثمانية وأربعين درهما ، وعلى المتوسط أربعة وعشرين درهما ، وعلى الفقير اثني عشر درهما انتهى . وهو مرسل ، ورواه ابن زنجويه في " كتاب الأموال " حدثنا أبو نعيم ثنا مندل عن الشيباني عن أبي عون عن المغيرة بن شعبة أن عمر وضع ، إلى آخره . طريق آخر : رواه ابن سعد في " الطبقات في ترجمة عمر " أخبرنا عارم بن الفضل ثنا حماد بن سلمة عن سعيد الجريري عن أبي نضرة أن عمر وضع الجزية على [ ص: 330 ] أهل الذمة فيما فتح من البلاد ، فوضع على الغني ثمانية وأربعين درهما ، وعلى الوسط أربعة وعشرين درهما ، وعلى الفقير اثني عشر درهما ، مختصر من حديث طويل .

                                                                                                        طريق آخر : رواه أبو عبيد القاسم بن سلام في " كتاب الأموال " حدثنا إسماعيل بن جعفر عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب عن عمر أنه بعث عثمان بن حنيف ، فوضع عليهم ثمانية وأربعين درهما ، وأربعة وعشرين ، واثني عشر انتهى . وأما الرواية عن عثمان ، وعلي . .




                                                                                                        الخدمات العلمية