الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 97 ] فصل ) النذر أي حقيقته شرعا

النذر التزام مسلم كلف [ ص: 98 ] ولو غضبان ، [ ص: 99 ] وإن قال إلا أن يبدو لي أو أرى خيرا منه ، بخلاف إن شاء فلان فبمشيئته ، وإنما يلزم به ما ندب [ ص: 100 ] ك لله علي ، أو علي ضحية

التالي السابق


( باب ) في النذر

( النذر ) أي حقيقته شرعا ( التزام ) أي إيجاب شخص ( مسلم ) لا كافر وندب له وفاؤه إن أسلم ( كلف ) بضم فكسر مثقلا لا صبي ، وندب له وفاؤه بعد بلوغه ، ومفعول المصدر محذوف أي قربة بدليل قوله الآتي وإنما يلزم به ما ندب وعلى هذا فهو تعريف للنذر بالمعنى الأخص ، ويحتمل تقدير المفعول أمرا فيعم المندوب وغيره بقرينة حذفه ، وتعقيبه ، بقوله وإنما يلزم به ما ندب ، وعلى هذا فهو تعريف له بالمعنى الأعم ، وقد جمعهما ابن عرفة بقوله : النذر الأعم من الجائز إيجاب امرئ على نفسه لله تعالى أمرا لحديث { من نذر أن يعصي الله فلا يعصه } . وإطلاق الفقهاء على المحرم نذرا ، وأخصه المأمور بأدائه التزام طاعة بنية قربة لا لامتناع [ ص: 98 ] من أمر ، فهذا يمين حسبما مر وقاله ابن رشد . ا هـ . وشمل المسلم المكلف الرقيق . وحاصل ما لابن عرفة أنه إذا نذر ما يتعلق بجسده كصوم وصلاة فإن لم يضر بالسيد فليس له منعه من تعجيل وفائه ، وإن ضر به فله منعه منه ويبقى في ذمته . أبو عمر وهذا في غير المؤقت ، وأما المؤقت ففي سقوطه عنه بخروج وقته ولزوم قضائه قولان وإن نذر مالا فلسيده منعه من الوفاء به ما دام رقيقا ، فإذا عتق وجب عليه الوفاء به ، فإن رد سيده النذر وأبطله فلا يلزمه كما في كتاب العتق من المدونة خلاف ما في كتاب الاعتكاف منها . وما ذكرناه من الخلاف بين الموضعين هو ما حملها عليه بعض الأندلسيين ، وفرق القرويون بينهما بفروق أحسنها ما لابن عرفة ونصه : والصواب لا تعارض بينهما ; لأن مسألة اللزوم لم يذكر فيها ردا ، بخلاف مسألة العتق . وحاصله أنه إن رد سيده نذره بطل ، ولا يلزم وفاؤه إن عتق ، وإن لم يرده بل منعه الوفاء فقط لزمه الوفاء به بعد عتق والله أعلم . وشمل أيضا السفيه ذكرا كان أو أنثى فيلزمه نذر غير المال لا المال ، فلا يلزمه على المعتمد ، فعلى وليه رده كله ، وإن رشد فلا يلزمه ويندب له ، وشمل أيضا بقية المحاجير كمريض وزوجة رشيدة ، ولو بزائد الثلث فيهما ، لكن إن أجازه الزوج والوارث وإلا نفذ ثلث المريض ، وللزوج رد الجميع إن نذرت زائدا . والفرق أن المريض لا يرد وارثه إلا بعد موته فلا يمكنه إنشاء نذر بثلث ، والزوجة إن رد زوجها جميع نذرها يمكنها إنشاء نذر بثلثها ، وشمل السكران بحرام فيلزمه الوفاء بما نذره حال سكره لا بحلال فكالمجنون ، ويلزم المسلم المكلف الوفاء بما نذره إن لم يكن غضبان .

بل ( ولو ) كان الناذر ( غضبان ) خلافا لمن قال عليه كفارة يمين ، ومثل نذر الغضبان في الوجوب نذر اللجاج وهو الذي يقصد به منع النفس من فعل شيء ومعاقبتها وإلزامها النذر كلله علي نذر إن كلمت فلانا ، وكذا نذر كثير من صوم أو صلاة أو غيرهما [ ص: 99 ] مما يؤدي للحرج والمشقة مع القدرة عليه وهو مكروه ، بخلاف ما لا يطيقه فإن نذره معصية قاله القرطبي ويلزم الناذر نذره .

( وإن قال ) المسلم المكلف علي كذا ( إلا أن يبدو لي ) أن لا أفعل أو إلا أن يشاء الله فالمشيئة لا تفيد في النذر غير المبهم مطلقا على المشهور ; لأنه نص المدونة خلافا لما في الجلاب من قوله : تنفعه المشيئة ، وأما المبهم فكاليمين في المشيئة بالله ، ولو قال علي نذر كذا إن شئت ، فظاهر كلام تت أنه لا ينفعه أيضا ، ونصه عقب قوله ( أو ) : إلا أن ( أرى خيرا منه ) أي النذر خلافا للقاضي إسماعيل في قوله : ينفعه كأنت طالق إن شئت ا هـ . ولعل الفرق أنه عهد التعليق في الطلاق ، وفي بعض التقارير أنه يتوقف على مشيئته البناني .

وحاصل ما لهم في الطلاق : أن التقييد بمشيئة الله تعالى لا ينفع فيه سواء كان شرطا ، نحو إن شاء الله أو كان استثناء ، نحو إلا أن يشاء الله ، وأن التقييد فيه بمشيئة الغير نافع فيه شرطا كان ، نحو إن شاء فلان أو استثناء ، نحو إلا أن يشاء فلان ، وأن التقييد بمشيئة نفسه غير نافع فيه إن كان استثناء ، نحو إلا أن يبدو لي وينفعه إن كان شرطا ، نحو إن شئت على ما هو المنصوص في المدونة كما قاله الحط في الطلاق ، ولم أر نصا مصرحا بذلك في باب النذر والظاهر أن جميع التفصيل المذكور في الطلاق يجري هنا في النذر فالمسألة في كل منهما على طرفين وواسطة .

( بخلاف ) علي كذا ( إن شاء فلان فبمشيئته ) أي فلان من أمضاء أو رد ، فإن مات فلان قبل أن يشاء أو لم تعلم مشيئته برد أو إمضاء فلا شيء على الناذر ، وقوله فلان أي الحي فإن كان ميتا حال قوله لزمه نذره لتلاعبه إن كان عالما بموته وإلا فلا يلزمه ، وعلى نذر إن شاء هذا الحجر لزمه لهزله .

( وإنما يلزم به ) أي النذر ( ما ) أي شيء ( ندب ) بضم فكسر أي طلب فعله [ ص: 100 ] طلبا غير جازم . ابن عاشر يعني مما لا يصح أن يقع إلا قربة

وأما ما يصح وقوعه تارة قربة وتارة غيرها فلا يلزم بالنذر كنكاح وهبة ذكره الشريف التلمساني ، فشمل الرغيبة والسنة أيضا بدليل التمثيل بقوله ( ك لله ) تعالى ( علي ) ضحية أو ركعتان قبل الظهر ولو لم يلفظ بالنذر على الصحيح ( أو على ضحية ) بدون لله ، وأظهر مما ندب قربة ، ومنها صوم يوم معين وعتق رقيق كذلك ، ولا يرد أن القربة تشمل الواجب وهو لا يجب بالنذر لقصر السياق إياها على ما سواه ، إذ في شمولها إياه تحصيل الحاصل وهو محال ، ولا يرد على تمثيله ما مر من أنها إنما تجب بالذبح فإنه في الوجوب الذي يلغى العيب الطارئ بعده كتقليد الهدي وما هنا فيما يلزم الوفاء به ، ومن المندوب زيارة حي أو ميت فتجب بالنذر ، وإن أعمل فيها المطي وحديث لا تعمل المطي مخصوص بالصلاة قاله ابن عبد البر ، وكذا خبر { : لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد } لا دليل فيه على منع الزيارة إذ المستثنى منه محذوف ، أي المسجد ، بدليل أن المستثنى مساجد والأصل فيه الاتصال .

ويرد على كلام المصنف صوم رابع النحر والإحرام بالحج قبل زمانه أو مكانه إذ هما مكروهان ويلزمان بنذرهما . ويجاب بأن الصوم والإحرام مندوبان لذاتهما مكروهان لوقتهما فوجبا بالنذر باعتبار ندبهما لذاتهما ، وألغيت كراهتهما لوقتهما احتياطا للنذر ، واحترز بما ندب عن الواجب فلا يجب بالنذر ; لأنه تحصيل حاصل ، وعن المحرم والمكروه والمباح فلا يجب شيء منها بالنذر . ابن عرفة ويحرم نذر المحرم وفي كون نذر المكروه والمباح كذلك أو مثلهما قوله الأكثر مع ظاهر الموطأ والمقدمات ا هـ . ولعل وجه التحريم قلب الوضع الشرعي . أفاده عب . طفى أتى بكاف التمثيل إشارة إلى عدم انحصار صيغته في لله علي أو علي وهو كذلك ، فيلزم بكل لفظ دال على الالتزام ففيها إن قال : داري أوعبدي أو شيء من ماله مما لا يهدى هدي أو حلف بذلك وحنث فليبعه ويبعث ثمنه ا هـ . وقال الباجي مثل أن يقول : إن شفى الله مريضي أو قدم غائبي أو نجاني من كذا [ ص: 101 ] فأصوم يومين أو أصلي ركعتين أو أتصدق بكذا . ا هـ . وتأمل قول المصنف وعجل الإحرام في أنا محرم إلخ ، وقوله في بمالي في كسبيل الله وقوله آخر الهبة ، وإن قال داري صدقة إلى غير ذلك .

ونبهت على هذا وإن كان ظاهر الآن بعض الناس توهم أنه لا يكون إلا بالله علي أو علي اغترارا بظاهر كلام المصنف ، وبقول الشارحين وأشار لصيغته وهو خطأ صراح ونصوص المالكية متضافرة على أنه ليس له صيغة مخصوصة حتى اختلفوا في لزومه بالنية .




الخدمات العلمية