الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        [ ص: 628 ] والمناسب يقسم إلى حقيقي وإقناعي .

                        والحقيقي ينقسم إلى ما هو واقع في محل الضرورة ، ومحل الحاجة ، ومحل التحسين .

                        ( الأول ) : الضروري : وهو المتضمن حفظ مقصود من المقاصد الخمس التي لم تختلف فيها الشرائع ، بل هي مطبقة على حفظها ، وهي خمسة :

                        ( أحدها ) : حفظ النفس بشرعية القصاص ، فإنه لولا ذلك لتهارج الخلق ، واختل نظام المصالح .

                        ( ثانيهما ) : حفظ المال بأمرين :

                        ( أحدهما ) : إيجاب الضمان على المتعدي ، فإن المال قوام العيش .

                        ( وثانيهما ) : القطع بالسرقة .

                        ( ثالثها ) : حفظ النسل بتحريم الزنا ، وإيجاب العقوبة عليه بالحد .

                        ( رابعها ) : حفظ الدين بشرعية القتل بالردة ، والقتال للكفار .

                        ( خامسها ) : حفظ العقل بشرعية الحد على شرب المسكر ، فإن العقل هو قوام كل فعل تتعلق به مصلحة ، فاختلاله يؤدي إلى مفاسد عظيمة .

                        واعترض على دعوى اتفاق الشرائع على الخمسة المذكورة بأن الخمر كانت مباحة في الشرائع السابقة وفي صدر الإسلام . ورد بأن المباح منها في تلك الشرائع هو ما لا يبلغ إلى حد السكر المزيل للعقل ، فإنه محرم في كل ملة ، كذا قال الغزالي .

                        وحكاه ابن القشيري عن القفال ، ثم نازعه فقال : تواتر الخبر أنها كانت مباحة على الإطلاق ، ولم يثبت أن الإباحة كانت إلى حد لا يزيل العقل .

                        وكذا قال النووي في شرح مسلم ولفظه : " وأما ما يقوله من لا تحصيل عنده أن المسكر لم يزل محرما فباطل ، لا أصل له " انتهى .

                        قلت : وقد تأملت التوراة والإنجيل; فلم أجد فيهما إباحة الخمر مطلقا ، من غير [ ص: 629 ] تقييد بعدم السكر ، بل فيهما التصريح بما يتعقب الخمر من السكر ، وإباحة ذلك فلا يتم دعوى اتفاق الملل على التحريم ، وهكذا تأملت كتب أنبياء بني إسرائيل; فلم أجد فيها ما يدل على التقييد أصلا .

                        وقد زاد بعض المتأخرين " سادسا " ، وهو حفظ الأعراض ، فإن عادة العقلاء بذل نفوسهم وأموالهم دون أعراضهم ، وما فدي بالضروري فهو بالضرورة أولى ، وقد شرع في الجناية عليه بالقذف الحد ، وهو أحق بالحفظ من غيره ، فإن الإنسان قد يتجاوز عمن جنى على نفسه أو ماله ، ولا يكاد أحد أن يتجاوز عمن جنى على عرضه ، ولهذا يقول قائلهم :


                        يهون علينا أن تصاب جسومنا وتسلم أعراض لنا وعقول



                        قالوا : ويلتحق بالخمسة المذكورة مكمل الضروري ، كتحريم قليل المسكر ، ووجوب الحد فيه ، وتحريم البدعة ، والمبالغة في عقوبة المبتدع ، الداعي إليها ، والمبالغة في حفظ النسب ، بتحريم النظر ، واللمس ، والتعزير على ذلك .

                        ( القسم الثاني ) : الحاجي :

                        وهو ما يقع في محل الحاجة ، لا محل الضرورة ، كالإجارة ، فإنها مبنية على مسيس الحاجة إلى المساكن ، مع القصور عن تملكها ، وامتناع مالكها عن بذلها عارية ، وكذلك المساقاة والقراض .

                        ثم اعلم أن المناسبة قد تكون جلية ، فتنتهي إلى القطع ، كالضروريات ، وقد تكون خفية ، كالمعاني المستنبطة لا لدليل إلا مجرد احتمال الشرع لها ، وقد يختلف التأثير بالنسبة إلى الجلاء والخفاء .

                        ( القسم الثالث ) : التحسيني :

                        [ ص: 630 ] وهو قسمان :

                        ( الأول ) : ما هو معارض للقواعد ، كتحريم القاذورات ، فإن نفرة الطباع عنها; لقذراتها معنى يناسب حرمة تناولها; حثا على مكارم الأخلاق ، كما قال تعالى : ويحرم عليهم الخبائث ( وحمله الشافعي على المستحب ) وكما قال - صلى الله عليه وآله وسلم - : بعثت لأتمم مكارم الأخلاق .

                        ومنه سلب العبد أهلية الشهادة; لأنها منصب شريف ، والعبد نازل القدر ، والجمع بينهما غير ملائم .

                        وقد استشكل هذا ابن دقيق العيد ; لأن الحكم بالحق بعد ظهور الشاهد ، وإيصاله إلى مستحقه ، ودفع اليد الظالمة عنه من مراتب الضرورة ، واعتبار نقصان العبد في الرتبة والمنصب من مراتب التحسين ، وترك مرتبة الضرورة رعاية لمرتبة التحسين بعيد جدا ، نعم لو وجد لفظ يستند إليه في رد شهادته ، ويعلل بهذا التعليل لكان له وجه ، فأما مع الاستقلال بهذا التعليل; ففيه هذا الإشكال .

                        وقد ذكر بعض أصحاب الشافعي أنه لا يعلم لمن رد شهادة العبد مستندا أو وجها .

                        وأما سلب ولايته; فهو في محل الحاجة; ( إذ ولاية ) الأطفال تستدعي استغراقا وفراغا ، والعبد مستغرق بخدمة سيده ، فتفويض أمر الطفل إليه إضرار بالطفل ، أما الشهادة فتتفق أحيانا ، كالرواية والفتوى .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية